"اكتشف الصين".. رحلة لتلمس أسرار التنين وهو يستعد للنهوض
"اكتشف الصين".. رحلة لتلمس أسرار التنين وهو يستعد للنهوض
ونحن نتجه إلى بكين بعد ثلاثة أيام في هونغ كونغ، ترددت في ذهني كلمة قالها وزير المالية في حكومة إقليم هونغ كونغ، فريدريك ماFrederick Ma، خلال آخر غداء عمل في هونغ كونغ، قال فيها: إن سر نجاح الصين أنها بدأت بالإصلاح الاقتصادي الذي سيؤدي حتما إلى إصلاح سياسي وليس العكس الذي حدث في روسيا وبلدان أوروبا الشرقية". فكرت حينها بأن هذه المقولة قد تصلح مفتاحا لبلداننا العربية؛ فجرعة كبيرة من الإصلاح السياسي قبل الإصلاح الاقتصادي قد تقتل بعض البلدان العربية؛ في حين أن الإصلاح الاقتصادي المدروس لا بد أن يؤدي إلى فك قبضة أجهزة الدولة على الحريات الفردية ويؤدي حتما إلى إصلاح سياسي.
في عام 2004 تجاوز حجم الاقتصاد الصيني حجم الاقتصاد الإيطالي. اليوم أصبح يضيف ما يعادل الاقتصاد الإيطالي كل عام. تلك واحدة من مئات الحقائق التي يعلنها الاقتصاد الصيني كل يوم، فيحتل معظم العناوين الاقتصادية، فهو اليوم رابع اقتصاد في العالم، وقبل نهاية العقد الحالي سيصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد أن يتجاوز ألمانيا واليابان؛ وسيواصل النمو المذهل الذي يسجله منذ نهاية السبعينيات؛ ليصبح أكبر اقتصاد في العالم نهاية العقد المقبل ويمثل 30 في المائة من الاقتصاد العالمي بحلول عام 2025.
تلك الحقائق وغيرها كثير، تكاد تكون متاحة للجميع؛ لكنها تمتزج بعدد هائل من علامات التعجب والاستفهام؛ التي دعت مكتب العائلة The Family Office ومقره البحرين إلى دعوة نحو 35 من أبرز رجال الأعمال والمستثمرين في دول الخليج العربية، خاصة من المملكة العربية السعودية؛ يتأملون الظاهرة الصينية في برنامج طموح أطلقت عليه عنوان "اكتشف الصين" وعنوانا فرعيا هو: "فرص استثمارية خلف سور الصين". عنوان الرحلة بدا طموحا لأول وهلة؛ لكن برنامج الرحلة الذي امتد لتسعة أيام، بدد ذلك؛ من خلال تفاصيل البرنامج والمستوى الرفيع في اختيار فقراته؛ إضافة إلى الدقة والمهنية العالية في متابعة تنفيذ البرنامج، الذي فاق جميع توقعات المشاركين.
والمعلوم أن برنامج الزيارة "اكتشف الصين" نظمه مكتب العائلة الذي يتخذ من البحرين مقرا له, في منتصف نيسان (أبريل) الجاري وضم عددا من رجال الأعمال والتنفيذيين في الخليج. واشتمل البرنامج على ستة مؤتمرات تحدث فيها نخبة من أرفع الخبرات العالمية في مجال الاستثمار في الصين؛ مثلوا أكبر المؤسسات المالية العالمية؛ وتحدثوا فيها عن أبرز مميزات الاستثمار في الصين وأكبر المعوقات والمحاذير التي ينبغي للمستثمر الانتباه اليها.
برنامج الرحلة امتد أيضا إلى الجانب الحياتي والترفيهي وشمل زيارات لأبرز معالم هونغ كونغ والعاصمة بكين ومدينة شنغهاي ليفتح نوافذ حسية على طبيعة الثقافة الصينية التي تكمن فيها أسرار ما ينتظره العالم من التنين الصيني. وقد بدا للمشاركين في نهاية الرحلة أن هذا العملاق لا يزال في مرحلة الاستيقاظ الأولى، وأن نسبة هائلة من طاقته لا تزال نائمة.
مفتاح اكتشاف الصين
أولى الخطوات الموفقة في الرحلة كانت اختيار هونغ كونغ مدخلا إلى الصين؛ فهي جزء من الصين لكنها سبقتها بأكثر من مئة عام من الانفتاح الاقتصادي والسياسي وقوانين اقتصاد السوق؛ لذلك فهي كما يقول عبد المحسن العمران الرئيس التنفيذي لمكتب العائلة الذي نظـّم الرحلة: "تملك أبرز مفاتيح الدخول إلى الاقتصاد الصيني".
في اليوم الأول تحدث العمران في كلمة الافتتاح عن أن هدف الرحلة؛ "سيمتد من استكشاف الفرص التجارية والاستثمارية الكبيرة إلى التاريخ النادر الذي ستكشف عنه ثلاث مدن صينية رئيسية، هي هونغ كونغ وبكين وشنغهاي".
واتضح الدور النادر والكبير لهونغ كونغ في دخول الاقتصاد الصيني في كلمة رئيس مجلس إدارة سوق هونغ كونغ للأوراق المالية دونالد أركيولي الذي تحدث عن الفرص التي تقدمها السوق التي تضم 1180 شركة مسجلة؛ أكثر من 60 في المائة منها، لها علاقة بالاقتصاد الصيني. كما أنها شهدت في العام الماضي ثاني أكبر عدد من الاكتتابات IPO بعد سوق لندن, معظمها لشركات صينية؛ أكبرها الاكتتاب العام في أسهم بنك الصين الصناعي والتجاري ICBC.
على مدى ثلاثة أيام من المحاضرات التي أخذت النصف الأول من نهارات تلك الأيام حصل المشاركون على خلاصة عدد من الخبرات العالمية النادرة في مزايا ومعوقات الاستثمار في الصين ومقارنات للفرص البديلة في عموم آسيا، وذلك من خلال ممثلين لبنك شرق آسيا ومؤسسة شرق آسيا لإدارة الاستثمارات وميريل لنش وغولمان ساكس وسيتي غروب لإدارة الاستثمارات وعدد من المؤسسات المالية الأخرى.
وقد تخلل تلك اللقاءات والمحاضرات المكثفة زيارات لأهم معالم هونغ كونغ وزيارتان إلى مطارها وسوق الأوراق المالية.
ومن أبرز الملاحظات التي سجلتها من خلال لقاءاتي بالمتحدثين أنهم فوجئوا بطبيعة الأسئلة والنقاشات التي طرحها رجال الأعمال والمستثمرون الخليجيون؛ لما انطوت عليه من دراية وخبرة كبيرة في كيفية البحث عن الفرص التجارية والاستثمارية. معظم المحاضرات تناولت العقبات والمحاذير قبل الحديث عن المزايا؛ ومثلما قال موزس تسانغ رئيس مؤسسة أجيا Ajia لإدارة الاستثمارات: "إن السؤال الأول والأخير في عملية الاستثمار في الصين هو: كيفية اختيار الشريك المحلي". وحظي المشاركون باهتمام كبير من قبل عدد من الشخصيات البارزة في عالم المال والأعمال؛ فأبدت حرصا كبيرا على لقاء الوفد؛ منها رئيسة مجموعة سيتي غروب لإدارة الاستثمارات سالي كراوتشك التي اعتبرتها مجلة "فوربس" سادس أوسع نساء العالم نفوذا، والتي كانت في هونغ كونغ لساعات معدودة لكنها عطلت برنامجها كي تلتقي المشاركين في الرحلة على غذاء عمل.
بحثا عن القبضة الحديدية
تذكرت مثلا إنجليزيا يقول: "الانطباع الأول؛ هو الانطباع الأخير" حين دخلنا مطار بكين الدولي؛ فالانطباع الذي تتركه المطارات يصعب نسيانه. كان المرور عبر مكتب الجوازات بمنتهى السلاسة مع ابتسامة كبيرة وانحناءة رأس لطيفة؛ جعلته من أكثر المطارات ترحيبا؛ ليس بنا فقط بل بجميع الواصلين إلى المطار من الأجانب والصينيين؛ الأمر الذي جعل البعض يتساءل: هل هذا مطار بلد شيوعي لا تزال الأنباء تحدثنا عن قبضة سلطاته الحديدية؟
بدت بكين ورشة عمل كبيرة، تنتشر فيها رافعات البناء في كل مكان. هناك خريطة جديدة تـُرسم لبكين؛ وموعد انتهاء العد التنازلي لاكتمال العاصمة بالصورة التي يريدها التنين الصيني هو موعد الألعاب الأولمبية صيف العام المقبل؛ وجميع هذه المشاريع ستكتمل قبل ذلك الموعد، كما أخبرتنا الدليلة السياحية، فتولدت لدى بعض المشاركين في الرحلة رغبة بزيارتها بعد ذلك التاريخ.
ما يلفت الانتباه في جميع أنحاء الصين؛ ذلك الكم الهائل من المواقع الأثرية، والسبب هو التاريخ المتصل الذي يمتد ستة آلاف عام؛ فهي لم تشهد أي تدمير واسع للآثار مثلما فعل الغزاة والفاتحون في بقية أنحاء العالم؛ لكن المراقبون يتحدثون اليوم عن خطر ورشة البناء العملاقة على المواقع الأثرية.
بدت الشوارع فسيحة بدرجة استثنائية والزحام أقل بكثير مما يمكن أن يتبادر إلى الذهن حين يفكر المرء بذلك العدد الهائل لسكان الصين؛ وهو أمر لاحظته في جميع المناطق التي زرناها؛ باستثناء هونغ كونغ.
الوصول إلى بكين
وصلنا إلى بكين في وقت الظهيرة؛ فطرأ تعديل على البرنامج وتحول إلى تجوال في شوارع المدينة؛ فتح لنا نافذة على وجوه وحركة الصينيين الدؤوبة؛ بحثا عن جماليات الحياة الصينية وأسرار الظاهرة الصينية في طبيعة الإنسان الصيني.
قلبت في ذهني المعتقدات الصينية من الكونفوشيوسية إلى التاوية وصولا إلى البوذية الوافدة من الهند وكيف امتزجت تلك المعتقدات حد الانصهار؛ وإذا ما أضفنا قبضة ستة آلاف عام من حكم الأباطرة الصينيين الذين حكموا البلاد بقبضة من حديد؛ أوصلنا كل ذلك إلى جانب من طبيعة الإنسان الصيني، الذي يحتل احترام الآخر جانبا كبيرا من شخصيته التي تمتاز أيضا بالصبر والقناعة الكبيرة.
ويخيل لي أن الحكمة الصينية العميقة هي التي تحكم الصين أكثر من الحكومة وأجهزتها الأمنية؛ فأنت تجد ميلا للتمرد في شعب من عشرة ملايين نسمة أكثر مما تجده في مليار و300 مليون إنسان ثم توالت النوافذ النادرة على الحياة والشخصية الصينية؛ حيث انتقلنا إلى طقوس شرب الشاي في أحد المباني الإمبراطورية؛ حيث تواجهك التفاصيل المذهلة لتقاليد شرب كل نوع من آلاف أنواع الشاي.
في اليوم التالي قلـّبنا جانبا من تاريخ الصين بحثا عن أسرار أخرى, وكان البرنامج يتضمن زيارة إلى المدينة المحرمة التي أقيمت قبل نحو 600 سنة، وكانت محرمة حتى منتصف القرن الماضي على دخول أي رجل باستثناء الإمبراطور والآلاف من نسائه؛ وللمدينة مساحة شاسعة تزيد على كيلو متر مربع ثم انتقلنا إلى سور الصين الذي يختزل الكثير من شخصية الحضارة الصينية؛ ذلك السور الذي يعد أكبر مشروع معماري في تاريخ البشرية.
في اليوم التالي عقد أحد أهم المؤتمرات، ومرة أخرى يجري الحديث بشفافية عالية عن خطر الفساد والخلل بين سياسات الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم، وصولا إلى استمرار تحكم الدولة في قطاعات كثيرة، خاصة القطاع المصرفي؛ حيث تواصل الدولة الهيمنة على المصارف المحلية الصغيرة وتملك حصة الأغلبية في معظم المصارف، وتحتفظ بسلطة الموافقة على تعيين أي مسؤول تنفيذي في جميع المصارف، حتى لو كان أجنبيا، وحتى في المصارف التي لا تملك فيها حصة الأغلبية.
وحين يجري الحديث عن الحزب الشيوعي يأتي بطريقة موضوعية وكان الحديث يدور عن تاريخ غابر، ومرة أخرى نتساءل عما إذا كنا فعلا في بلد شيوعي؟ الحديث جرى أيضا عن عدم كفاءة الشركات الصينية وأن جميع قصص النجاح قادتها شركات أجنبية؛ حيث هذا التزاوج الفذ بين الأيدي العاملة الصينية والخبرات ورؤوس الأموال الأجنبية؛ على عكس ما حدث في اليابان وكوريا الجنوبية على سبيل المثال؛ حيث كانت قصص النجاح تتحدث عن شركات محلية.
في ذلك المؤتمر تحدث نائب رئيس بنك ICBC عن موقع الاقتصاد الصيني من حركة رأس المال العالمي؛ إضافة إلى عدد آخر من المتحدثين من دويتشة بنك ومؤسسات أخرى، ثم جاءت أبرز الإضاءات في حديث كيتان باتال Ketan Patel رئيس مؤسسة Greater Pacific Capital الذي تحدث عن رؤية الصين المستقبلية للقضايا المثيرة مثل استهلاك الطاقة والبيئة وصولا إلى مزايا ومعوقات الاستثمار في الصين.
شنغهاي عالم آخر
قبل الوصول إلى شنغهاي نبهنا أحد المتحدثين إلى أنها لا تمثل صورة الصين التي لا يزال 60 في المائة من سكانها يعملون في الزراعة (أكثر من 700 مليون)، فالمدينة التي تضاهي أحدث مدن العالم أصبحت رمزا للتطور العمراني؛ حيث تم تصميمها بتخطيط مدروس؛ لكنه يفتقر كثيرا إلى الهوية الصينية؛ فهوس العالمية يبدو واضحا في شنغهاي أكثر من أي مدينة أخرى... حيث ينهض عدد من أعلى وأفخم مباني العالم والشوارع والأسواق الحديثة التي تغيب عنها الهوية الصينية. ما أثار انتباهنا ودهشتنا وجود حي كامل ممنوح للفرنسيين منذ عام 1849 وآخر لليابانيين منذ عام 1937 رغم حساسية العلاقة مع اليابان.
مرة أخرى استحوذت المؤتمرات على النصف الأول من آخر يومين في شنغهاي حيث أضاءت نخبة من أرفع الخبرات العالمية جوانب جديدة من حراك التنين الصيني وجهود الحكومة في مواجهة الإفرازات العرضية لهذا النمو الهائل؛ حيث تحدث عدد منهم عن الفرص الكبيرة التي بدأت تنهض على طريق الحرير غربي الصين؛ وعن حركة النزوح الهائلة من الريف إلى المدن الساحلية؛ وبوادر حركة جديدة معاكسة إلى الداخل الصيني بعد ارتفاع الأجور وأسعار العقارات في المدن الساحلية.
وخُصصت آخر الجلسات للأفق السياسي للصين وعلاقتها بالولايات المتحدة وبقية الدول الكبرى؛ فانتهت جميع المداخلات إلى أن الصين بحكمتها الراسخة تتمتع بروح عملية إلى حد يمنع أي مواجهة محتملة؛ وهي غير قلقة من سياسات الولايات المتحدة، بل العكس؛ فهناك أوساط وحلقات معينة في واشنطن هي التي ينتابها القلق من صعود الصين. وكان التساؤل الأكبر في المجال المالي هو: إلى متى تواصل الصين تمويل العجز التجاري الأمريكي من خلال كنز الاحتياطيات المالية بالعملة الأمريكية؟
في شنغهاي كانت هناك زيارة فريدة لمجمع سكني مثالي هو مجمع حدائق كاليفورنيا السكني، الذي يضم ثمانية آلاف وحدة سكنية وترك لدى المشاركين انطباعا فريدا؛ في حين خصص المساء الأخير لجولة في المدينة للتعرف على شخصيتها المعمارية والاجتماعية؛ الأمر الذي فتح لنا نوافذ جديدة على ما يرسمه التنين الصيني، الذي سيكون لاعبا رئيسيا في رسم خريطة العالم الاقتصادية وربما السياسية أيضا.
جميع المؤتمرات التي عقدت في الرحلة كانت مذهلة في تفاصيلها وشفافيتها وتركيزها على العقبات قبل المزايا. وإذا كانت المعلومات والخبرات يمكن الوصول إليها في أي مكان من العالم فإن الزيارات الميدانية كانت فريدة وفي غاية الترتيب وفتحت نوافذ حسية وانطباعية عما يعتمل داخل هذا الشعب والاقتصاد العملاق.