قوقعة ذواتنا ونوافذها الممكنة للتواصل مع الآخرين

قوقعة ذواتنا ونوافذها الممكنة للتواصل مع الآخرين
قوقعة ذواتنا ونوافذها الممكنة للتواصل مع الآخرين
قوقعة ذواتنا ونوافذها الممكنة للتواصل مع الآخرين

قد نسمع في كثير من الأحيان أُمَّا تعلن بصوت عال: إن هذا ولدي وأنا أعرفه حق المعرفة، وبالمثل قد تقول زوجة وبثقة كاملة، إنها تدرك ردود أفعال زوجها وتفهم كل حركاته وسكناته، وتستطيع النفاد إلى أعماقه وسبر دواخله... هل حقا لنا هذه القدرة على الوصول إلى قرارات الذات الأخرى؟ هل الغير شفاف بقدر كاف، كي نطل عليه ونرى بوضوح كامل عالمه الداخلي؟ أم أن عالمه مظلم ومعتم وصعب ولوجه؟ هل محاولة معرفة الآخر وسبر أغواره واختراق وعيه واقتحام دهاليز أعماقه أمر سهل؟ ويتم بنجاح كامل؟ أم أن قدر هذه المعرفة هو الفشل الدائم؟

نحن أمام نظرتين في هذه المسألة المؤرقة تجاه الغير، نظرة الاتصال وهي متفائلة، ترى أن إمكانية العبور نحو عوالم الآخر ودواخله متاحة وجد ممكنة عن طريق التواصل بكل أنواعه. ونظرة الانفصال وهي متشائمة ترى أن الغير مغلق بقدر انغلاق الذات تجاههم، فكل ذات هي بمثابة القوقعة أو القلعة الحصينة الموصدة بإحكام والنفاذ إليها مستحيل. سنسعى في مقالنا هذا إلى مقاربة هذه الإشكالية المستعصية التي تثقل كواهلنا جميعا، فكم من خيبات الأمل وجدناها في علائقنا المتعددة وكم من حب خبا وانطفأ وكم من زواج انتهى إلى طلاق وكم من شراكات تم فسخها .. فخبرات كل فرد في الحياة تؤكد له تعقد إشكالية الغير فعالمه سري منيع، نتوق إليه ونطمح إلى الدخول في عالمه الساحر، فنردد بأعلى صوت: نعم وجدنا من نفهم ومن يفهمنا، لكن سرعان ما ينقلب هذا النجاح الظاهري إلى فشل كامل. فلنقف إذن عند حدود انغلاق الذات وانفتاحها؟

###جسر نحو الآخر

إن المتأمل في المشهد البشري يثير انتباهه تلك الرغبة الملحة في التواصل مع الغير، فالذات تلهث وراء الآخر طلبا لوده والتقرب منه، فنحن نجري وراء الصداقة والحب والزواج، ونبرم المعاهدات ونقيم الصفقات .. وهي أمور لا يمكن أن تتحقق إلا بحضور الغير، فهو مبحوث عنه دائما، فكم من الرسائل تكتب يوميا وكم من حسابات المواقع الاجتماعية تفتح كل لحظة وكم من المكالمات الهاتفية التي لا نتقطع .. فالمرء وهو يسلك في درب الحياة ينسج شبكة علائقية مع الغير لا تتوقف أبدا، قد تكون تارة ناجحة وتارة أخرى فاشلة. فالمرء منا يريد أن يعرف ويعرف من طرف الآخر، لكن هل يتحقق هذا المراد؟

إن دعاة الاتصال وإمكانية معرفة الآخر يركزون على التواصل فهو القنطرة التي تسمح بالعبور إلى عوالمه الباطنية ويمكن إجمالا حصر التواصل في ثلاث نقاط:

ــ التواصل الجسدي: إننا عندما نلتقي بالآخر، نتعرف عليه بداية انطلاقا من ملامح وتحركات جسده، فالجسد هو البوابة الأولى نحو عالم الغير، إذ يزودنا بانطباعات مهمة حول الغير، فالجسد لا يمكن أبدا فصله عن النفس، فالباطن والظاهر هما وجهان لعملة واحدة، فما نظهره هو إعلان عما نضمر وهي الفكرة التي دافع عنها الفيلسوف الألماني ماكس شيلر (1874 / 1921) في كتابه "طبيعة وأشكال التعاطف"، فهو يرى أن الذات تدرك الغير وتعرفه وتعيش معه وصالا بطريقة كلية يندمج فيها النفسي بالجسدي ليشكلا وحدة حية متكاملة لا تقبل التجزئة أو الانقسام إلى جسم ونفس، فنحن ندرك في ابتسامة الغير غبطته، وفي دموعه حزنه، وفي احمرار وجهه خجله، وفي ضم كفيه تضرعه، وفي نظراته الحنونة غرامه، وفي صرير أسنانه غضبه، وفي قبضة يده المتوعدة رغبته في الانتقام، وفي كلماته معنى ما يريد قوله، وكثيرا ما نفهم المعنى الحقيقي المقصود الذي يقوله الآخر بعبارات مختلفة فنتنبه إلى أنه يظهر ما لا يضمر. فنحن لا نرى الجسم والملامح الشكلية بمعزل عن الباطن بل نرى الصورة العامة والبناء الكلي. فعندما أكتشف أن الآخر يراني بطريقة أراها لا تطابقني أدرك أنه مزق الرابط بين جسده وباطنه، فحتى دموع التماسيح يمكن اكتشافها لأن المرء لا يمكنه أن يمثل لمدة طويلة فلا محالة سيكشف، فالمسألة مسألة وقت. ولفهم مسألة لغة الجسد نضرب المثال التالي: لنتصور أن هناك امرأة موجهة نحوها ثلاث نظرات من طرف ثلاثة رجال، النظرة الأولى جنسية والثانية عطوفة أبوية والثالثة فيها استجداء. فهل ستكتشف المرأة ذلك؟ بالطبع نعم فهي ستفرق بين النظرات ومستوياتها. إذن العين ليست آلة صماء، ماعدا إذا كانت منفصلة عن الجسد ككل، أما وهي في قلب الجسد، فستكون مثقلة ومحملة بباطن الذات، وهو ما يجعلنا نتحدث عن عين شريرة أو حائرة أو ماكرة أو قلقة .. إذن يعد الجسد مجال تعبير الآخر والطريق الأول نحوه.
#2#
ــ التواصل اللغوي: ونحن نريد اقتحام عالم الآخر، لا نكتفي بالجسد وحركاته والوجه وقسماته والعين وحمولاتها، بل نتعدى ذلك إلى التواصل اللغوي، فاللغة هي الجسر الثاني الذي يعمق معرفتنا بالآخر، فكيف يمكن أن أتعرف على أفكار الغير دون واسطة اللغة؟ إنها المفصح عما يختلج في أعماقنا، فاللغة والفكر متلازمان ومترابطان، فأنا أفهم قناعات الآخر وهواجسه وتصوراته للقضايا بواسطة اللغة، فاللغة تفضح عن جزء مهم من أسرار الغير، إلى درجة أنه حتى في حالة ما إذا كان انطباعي حول الغير انطلاقا من جسده خاطئا فقد ترممه وتصححه اللغة.

ــ التواصل بالمواقف: قد أعبر لك عن أني شجاع وأني جواد كريم وأني أقبل أن تكون المرأة متحررة وتذهب لسوق الشغل وأن تكون ندا للرجل، فهذا ما قد أعرفه منك عن طريق اللغة، لكن الفيصل الحاسم هو المواقف التي ستضعك في المحك الحقيقي، ومن ثم تبدو طينتك وباطنك الغائر، فأحكم آنذاك من أنت. إذن المواقف تزيد من تعميق معرفتنا بالآخر. نخلص إلى أن ولوج عالم الغير يتم انطلاقا من ثلاثة مفاتيح متتابعة وهي الجسد وملامحه، اللغة وما تحويه من أفكار، المواقف المشكلة لتصورنا النهائي للآخر.
#3#
يضيف أنصار الاتصال، أنه إذا كان الإنسان أنانيا ولا يتخلى عن مصالحه الشخصية، وفي كثير من الأحيان يتمنع فلا يفتح ذاته أمامي أو يتصنع فلا يظهر حقيقة نفسه على مرأى ومسمع مني، فإن تجربة "الألم" تفضح الإنسان وتضطر الذات إلى البوح والتعبير عن نفسها، وهو ما أكده الفيلسوف "شوبنهور"، حيث يرى أنه إذا كانت سعادة الآخر تثير فينا الغيرة والحسد وتكون مصدر عذاب لنا وتذكرنا بتعاستنا، فإن ألم الغير يقربنا منه، فالشفقة تخرج المرء من تفرده، فأنانيته لن تتوقف إلا حيث يبدأ ألم الغير، فيدخل في اتحاد معه مشاركا إياه آلامه.

###الآخر قوقعة مغلقة

إن دعاة الانفصال هم عكس دعاة الاتصال الذين يفتحون إمكان معرفة الغير، حيث يؤكدون أن معرفة الغير مستحيلة، لأن الذات تعيش في قلعة محصنة وبأبواب موصدة بإحكام لا يمكن فتحها أبدا، فالذات تحيا في عزلة مطلقة، إنها كجوهر فرد وكعالم مستقل ليس له أبواب ولا نوافذ، فحتى ألم الغير الذي يعد بابا من خلاله نتعاطف معه ونشاركه وجدانيا حالته لا يمكن أبدا أن يجعل الآخر شفافا، فماذا يمكن مثلا أن أفعل تجاه صديقي المريض بالسرطان؟ أقصى ما سأفعل هو مواساته وتقديم كل العون الذي من شأنه أن يخفف عنه ألمه، فأحزن لحزنه وأتعذب لعذابه، إلا أن هذا هو مجرد مشاركة وجدانية لا تمت بصلة لما يحسه هذا الغير حقيقة، فألمه ألم يظل خارجا عن ذاتي، وتجربته تجربة شخصية لا يمكنني الإحاطة بها كليا.
إن هذا التقوقع حول الذات هو ما عبر عنه الدكتور زكريا إبراهيم في كتابه "مشكلة الحب" عندما قال: "من منكم يستطيع أن يتحدث عن "ذاتي" فيقول "أنا"؟ من غيري يستشعر آلام الجوع في قرارة أحشائي فيصرخ "أنا جائع"، أو يتجرع مرارة الخيبة في أعماق ضميري فيصيح "أنا ضائع"؟ إنكم تستطيعون أن تتعاطفوا معي، وتشفقوا علي، ولكن من منكم يستطيع أن يحيا حقيقة بواعثي فيهتف معي "أنا مظلوم" أو أن يقف على صميم دوافعي فينطق بلساني قائلا: "أنا بريء".

نستنتج أن الإنسان سيبقى دائما معزولا في سجنه الخاص وحيدا في آلامه وأفراحه بل وحيدا حتى في موته .. فبين الأنا والغير جدار سميك لا يمكن لأي أحد تجاوزه رغم كل إمكانات التعاطف والمشاركة، والنتيجة النهائية والمؤلمة لهذا القول هي أن قدر الإنسان هو ألا يشبع أبدا رغبته في التواصل وهو ما سيجعله دائم البحث عن الآخر لعله يحقق ذلك.

الأكثر قراءة