الياسمين الأزرق.. حين يكون الحاضر في قبضة الماضي
من الصعب وصف ذلك الإحساس بالمتعة "السادية" التي قد يشعر بها المشاهد، وهو يرقب بإمعان شخصية "جازمين" بمعنى الياسمين، تتعرض لانهيار من يسقط من القمة ببطء، ويقترب من الحافة دون أمل في الصعود. لا تمتلك إلا الشعور بالانبهار بأداء الممثلة الأسترالية "كايت بلانشيت" في فيلم "الياسمين الأزرق"، لشخصية امرأة نزقة مدللة، تحاول أن تلملم شظايا نفسها والبدء من جديد، دون معرفة لسبيل ذلك. فعلى الرغم من إعلانها إفلاسها، لا تتوانى عن حجز تذكرة من الدرجة الأولى، في رحلتها التي تقرر فيها بدء حياتها المفلسة، والاعتماد على نفسها لأول مرة.
الفيلم درامي كتبه وأخرجه المحترف الأمريكي وودي ألن، الذي أحسن الاستثمار في الممثلة المبدعة كايت بلانش، في أجمل حضور لها وأكثر إتقان لشخصية على حافة الانحدار. اختار وودي عنوان "الياسمين الأزرق"، حيث تغير الشخصية المحورية اسمها من جانيت إلى جازمين كاسم يمثل الرقي والرائحة البديعة، وهو أزرق كونه لون كئيب يغلب عليه الحزن، ويستحيل وجود تلك الزهرة باللون الأزرق. كما يستحيل أن تجعل حياتها بالصورة التي تطمح إليها. اختار ألن ألوانا زاهية يطغى عليها الأصفر كرمز للثراء والسعادة، وفي الوقت ذاته الغيرة وإخفاء الضغينة. تتأرجح المشاهد بين حياة الأثرياء والفقراء. وأزياء متقنة الاختيار، فجازمين بزهو تفضل ارتداء ثياب كلاسيكية تنسب للأثرياء، كارتدائها جاكيت من طراز شانيل في عدة مشاهد من الفيلم. وأختها "جنجر" تختار ثياباً سوقية فاحشة البهرجة، تنم عن ذوق متدن.
#2#
يختلط على المشاهد الماضي والحاضر، فأحداث الفيلم تعكس حالة "جازمين" الذهنية، وتسترجع الأحداث القديمة في حياتها، بتأرجح بين حالها وهي في قمة حياتها تستمتع بالثراء الفاحش، ووصولها إلى فقر لا تستوعبه، فهي تسخر من حالها حين اضطرت للمعيشة مع أختها في حي "وضيع" في نظرها كبروكلين. وتحاول بإعياء إكمال دراستها لتصبح مصممة ديكور، والبحث عن عمل تعيش من خلاله يتوافق مع ميولها، على الرغم من انعدام الخبرة لديها.
هناك أشخاص غير قادرين على وضع الماضي خلفهم بسهولة، والأدهى من ذلك حين يرفض المرء تقبل انحدار حياته. تدهور حال جازمين بعد انتقامها من زوجها الثري الدائم الخيانة لها، المتهم بالاحتيال وسرقة الأموال، حين يقرر هجرها، فتبلغ السلطات الفيدرالية بجرائمه، وتبدأ حياتها في الانحدار.
تتجلى فكرة الفيلم أو "عقدته الدرامية" في ذلك الانهيار وخيبة الأمل اللذين تمر بهما "جازمين"، أطرافها المرتجفة، وبحثها المهووس عن الأدوية المهدئة المختبئة في حقيبتها، وإدمانها الكحول. وهذيانها الممعن حتى تصل إلى مرحلة تكاد تفقد فيها عقلها، وتحادث نفسها ناسية أنها أمام أشخاص يستمعون لهلاوسها بالتياع. حيث تذكرنا "جازمين" بـ "بلانش دوبوا"، تلك الشخصية الرائعة الأسيرة لأوهامها والمتنكرة لوضعها الراهن، في الفيلم الكلاسيكي المقتبس من مسرحية تينيسي وليامز: "عربة اسمها الرغبة".
الفيلم يبرع في تجسيد الاختلاف في الطبقات الاجتماعية، حيث جنجر تمثل تلك الطبقة المدقعة، الحاقدة على الأثرياء الذين نهبوا أموالهم. يتجلى ذلك في المشهد الصادم، حين يلتقي "أوجي" الزوج السابق لجنجر بأختها في قارعة الطريق، ويبدأ بإلقاء اللوم بسخط وانفعال على تسببها في ضياع أمواله بسبب نهب زوجها المحتال له.
أن تكون أسيراً لنوستالجيا تفقدك القدرة على عيش الحاضر هو أمر مرير. تمعن جازمين في تصنع الكبرياء المقترن بحياة الترف، والنظر إلى الطبقة المدقعة بدونية، وكأنها تعتلي برجاً عاجياً ليست بحاجة إلى النزول منه. قد يجسد الفيلم حالة الذهول حيال الأزمة الاقتصادية والانهيار المالي، في مجتمع أمريكي رأسمالي يعتبر حلمه الوصول إلى حياة معيشية برخاء، بعيداً عن القيم الأخلاقية. فإن افتقد المرء ذلك كأنه خسر كل شيء.
أجادت بلانشيت في تجسيدها انهيار النفس الإنسانية لامرأة نرجسية ذات شخصية عنيفة خسرت كل شيء، وأصيبت بحالة ذهان ممزوج بالهذيان والهلوسة. تعيش أوهامها وكأنها لا تزال تلك المدللة التي تعيش رفاهيتها بلذة مفرطة، ثم تستفيق لتسقط مرة أخرى إلى هاوية الامتعاض والألم. وجسّدت كل تلك الأحاسيس بتعابير وجه دائم الانقباض، وعينين شاردتين في أغلب الأحيان، وفم كثير الالتواء، ويدين راجفتين.
عدم تصالحها مع نفسها يدفع الآخرين للشعور بالغيظ منها، وعدم التعاطف معها نتيجة إمعانها في الاستعلاء. تلوم كل من حولها إلا ذاتها، فجازمين تجد نفسها إنسانة مظلومة تعاني الاضطهاد والاستغلال ممن حولها، أخطأ بحقها العالم أجمع. لا تملك هي إلا إنكار كل ما يحدث من حولها، وإقناع الآخرين بأنها لا تزال تلك الثرية المدللة. فلا يملك المشاهد إلا أن يعرب عن انبهاره بذلك الانهيار البديع والانحدار نحو الحضيض.