(شاوِرْ نقيِّ الرأي عند التباسه)
عاشت اقتصادات العالم الصناعي الغربي القرون الميلادية الأربعة الأخيرة حتى منتصف القرن العشرين على ثبات أسعار كثير من البضائع والسلع المتداولة للحياة وبناء الاقتصاد الوطني. استقرار الحال من المستحال، خاصة مع تغير عادات التعامل وطباع التعايش واختلال توازنات واقع المكتسبات مع التطورات الهندسية للثروات النقدية الورقية وتزايد الاجتهادات لمعيشة فرضيات ملكيات المقتنيات المنظورة بما يفوق المتوفرات الحقيقية. تقليد الالتزام النقدي بقواعد الذهب والفضة في تحديد كميات النقود الورقية وأحجام تداولاتها، ضعفت مع نهاية الحرب العالمية الثانية. من أوائل من قضى على بقائها نهج حكومة بريطانيا العظمى العمالية برئاسة المستر اتلي "لسياسة النقود الرخيصة" لإعمار اقتصاديات ما بعد الحرب العالمية الثانية وما تلاها من "لهيب" الأسعار خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. التصحيح لسياسة "النقود الرخيصة" التراجع لتحجيم السيولة الزائدة ولنقص كميات النقود وتقليل سرعة التداول. تغير وتيرة التداول ترتب عليه تقارب عرض "النقود" مع الطلب التجاري الاستهلاكي والتشييدي لمستويات متقاربة للكساد وتحقيق تصحيح طبيعي للنشاطات الاقتصادية مما دفع بعض مشاهير اقتصاديي ذلك العصر القول، أن التضخم انتهى زمانه ودفنت ذكراه بجرعات متدرجة من الفوائد البنكية المركزية وفقاً للاحتياجات المعالجة للاقتصاد الوطني.
الربع الأخير من القرن الماضي اختلفت أوضاعه الاقتصادية عما كانت عليه لأربعة قرون مضت. الارتفاعات لأسعار السلع والبضائع عادت لتبقى من مظاهر نمو الاقتصادات الصناعية المتفاوتة الأداء والقدرات وفقاً لتوسعات التجارة العالمية التي لا تمليها حقيقة مصالح التسابقات التزاحمية، وبقدر ما تحكمها دولية آليات "البنك الدولي" و"صندوق النقد" واتفاقيات التجارة العالمية في عالم اقتصاد غربي الفكر، يروِّج لآلية البنوك المركزية وسعر الفائدة العتيقة وغير مفرِّق بين علاج المشكلة وصيانة الأضرار الجانبية وتضميد الجراح بخيارات لأنواع سلع ونشاطات واهية غير معلنة لسلة معايير التحركات التضخمية، متفاوتة بالزيادة والنقصان مع الأسعار السوقية للسلع والبضائع من سوق الخضار لسوق المال.
السنوات القليلة التي مضت، توضـِّح بما لا يترك مجالاً للشك أنَّ تضخُّم كلفة المعيشة والتشييد ما زالت "حية ترزق"، وأنَّ تقلبات الأسعار والتكاليف المرتفعة قاتلة للبشرية خاصة مع ثبات الرواتب والأجور والأرباح للنشاطات الاقتصادية التقليدية. تأثير سعر فائدة البنوك المركزية للتضخم ليست علاجية مصححة للأضرار من تأثيرات زيادة الأسعار والأجور : لأن جدوى سياسة مُدخلاتها النقدية ضعيف، ونسبة سعر فوائدها المعلنة مقارنة بمغالاة البنوك في استغلال تحركاتها يعطي نتائج مغايرة للأهداف الموضوعة. الضرر الأكثر من استخدامات آلية سعر الفائدة بالنسبة للاقتصاد الوطني السعودي "تحريم" تعاملاتها لمبررات "عقائدية". ارتكاز تعامل الاقتصاد الوطني السعودي لاستخداماتها "مبرقعة" من البنك المركزي ومن وراء "حجاب المعرفية الإسلامية" للمستهلك وبأكلاف "مُغمغمة" في الداخل "مكابرة جريئة" في وضح النهار. الاهتمام بتحسين مستويات المعيشة للمواطن يتطلب توفير الوسائل والطرق الإشرافية والمعلوماتية والتنظيمية لاستقرار الأسعار الاستهلاكية والتشييدية. القبول أن آلية سعر الفائدة بصفة عامة وفكر البنك المركزي الغربي بصفة خاصة "مصححة" لأوضاع الاقتصاد الوطني السعودي، يتطلب دراسة صادقة عما إذا آلية سعر الفائدة لتحجيم "كلف" العيش والعمل من واقع تطبيقاتها العملية محليا ناجحة في مهامها أو (مُعقـَّدة) ومُضخِّمة للأكلاف.
التزام الاقتصاد النامي بنمطية الفكر الغربي واتباع آليات فكره المتماشية مع أساليبه وطرقه من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى اتفاقيات بازل (2) وتوجهات توصيات اجتماعات الدول الصناعية لا غبار عليها. العمل وفقاً لمعطياتها بقليل من الإفصاح في عالم المنادات بالشفافية يؤدي إلى تخبط "الشائعات" وظهور سلبيات على رأسها الاستغلال والمغالاة. تسخير الفكر الغربي الصناعي "بفطنة" ذكية لخدمة الاقتصاد الوطني المحلي والمجتمع النامي"فضيلة" تعطي ثمار فوائدها حتى لأصحاب المشاريع الصغيرة والبطون الخاوية. التنظيمات الاقتصادية الوطنية مطلوب منها أن تحمي "الضعاف" بقدر خدمة "الكبار" وخاصة من "بزبوزهم براني". الاقتصاد الوطني النامي كلما افتقدت سياساته الاقتصادية الاجتماعية تفاعلها مع الطبقات الكادحة محلياً واقتصرت على خدمة النشاطات الدولية من الداخل، صعـَّب سيطرة توجهها بعيدا عن مصادر ثروات "قائمة" ولتقدم علمي ومجهودات بشرية محلية.
انخفاض التضخم في الربع الأخير للقرن الماضي في الدول الصناعية ليس لتأثير البنوك المركزية العاملة بفكر "تاريخ ما مضى" ولا لسعر الفائدة. العمل محليا بسياسات فوائد نقدية لمواجهة التضخم وباستحياء دافع "إسلامي" يضع الأسلوب والآلية تحت تساؤلات حول دورها في زيادة "الأكلاف" تحت دفاعات عقائدية بعيدة عن واقع تقييم تجاري اقتصادي حر. التقدم العلمي وتسخير الأبحاث عالمياً، يعطي نتائج تخفض سعر كلفة المكونات للمنتوجات الاستهلاكية والتشييدية بما يوفر بدائل: أسعارها أقل وفائدتها عظيمة. الواقع أنَّ الأسعار تنخفض في الغرب الصناعي لتطورات علمية وحُسن استخدامها لتحسين المعيشة لدرجة أدخلت القناعة لمشاهير الاقتصاديين أنَّ التضخم "اندثر ومات". لسترثرو الاقتصادي الأمريكي من جامعة أم آي تي يقول: إنَّ آليات القوى المصححة جعلت التضخم "بركانا خاملا". اقتصادي "بنك ساب" المستر روجر بويل أصدر كتابا عنوانه "وفاة التضخم". خلاصة الفكر الاقتصادي الغربي مع نهاية القرن العشرين حول التضخم: إنَّ اقتصادات العالم تتوافر لها القدرات والمهارات والاختراعات لتعيش في مستويات تمكنها من استمرار النمو والازدهار بعيدا عن "بعبع" التضخم، شريطة أن تتحرر البنوك المركزية من سيطرتها النقدية المُتفردة على الاقتصاد الوطني، وأن "تترفَّع" عن حروب الأمس لمواجهة واقع التحديات الحاضر المتغير. إذا الرأي المستنبط من كتابات مشاهير اقتصاديي الغرب مقبول، والأساليب المتبعة في الاقتصاد الوطني السعودي من مدارسهم "انتقائية"، فلا غرابة أنَّ النتائج مُحيرة. الاختلاف أبعاده العلمية قد تكون أكثر مما نتصور، خاصة أنَّّ "الوتد" الأساسي الحساس للفكر الغربي يتمحور حول سعر الفائدة "المبرقعة" محلياً. الخوف كل الخوف على الاقتصاد الوطني السعودي استمرار التزايد في عشوائية زيادة الفوائد البنكية ودوام "تصورات تسكينها" بقدرات تجعل المعدلات والأسماء محليا "مهضومة"، حتى من السائل والمحروم. الاستخفاف "بالتحدي" للواقع الذي عليه الاقتصاد الوطني السعودي تحت فرضيات مبررات زيادة السيولة وقيام المشاريع الجديدة وتنشيط السوق لا يفيد. الذي يفيد الأسلوب العلمي "ليكون الأمر" وفقاً لما يجب أن تكون عليه الأمور لواقع توازنات الحياة المعيشية. التصحيح يتولى أمره سوق العرض والطلب، والعاطلون والمتقاعدون من خارجه..إلخ. لابد من نظرة اجتماعية اقتصادية للاستفادة من قراءة الأحوال والوقوف على المصاعب. الأجهزة الرسمية المعنية بالمعيشة والفقراء والعجزة.. إلخ يحتاجون إلى زيادة "معارفهم" لخدمات متوافرة لأمم نتعاون معها ونستطيع أن نتعلم منها قبل أن نطمئن لهدي قوله تعالى "خير أمة أخرجت للناس". العمل الاجتماعي في البرازيل يشارك لقيامه "ستة وثلاثون مليون مواطن متطوع دون أجر خلاف ما يحصلون عليه من التقاعد. أين الوزارة المعنية بالشؤون الاجتماعية من رفع إنتاجية ودخول "ضعاف الله"... والصحة لحقيقة "اقتدار" العلاج الخاص والعام عوضاً عن "البهللة" السائدة. أنماط الإنفاق المحلي الضائعة تنعكس أثرها في تضخيم مصاعب المعيشة.
ارتفاعات الأسعار لكثير من البضائع المعيشية والسلع التشيدية حقيقة يعيشها الاقتصاد الوطني السعودي ويتألم من تزايدها المواطن إلى مستويات ترتفع كثيرا عن معيار التضخم المعلن رسمياً. الاعتقاد السائد لدى المواطن، أنَّ ارتفاعات الأسعار المستمرة انعكاسات لانخفاض استفادتهم الحقيقية للبضائع والسلع، وتنعكس سلباً على مستوى معيشتهم بمعايير ترتفع عن معدلات التضخم الرسمي المُعلن. الزيادات في الأسعار بعضها "عرضي لتفارقات" المعروض عن المطلوب مثل الأسمنت والحديد أو لثبات سعر تبادل العملة الرسمية مع عملة أجنبية ضعيفة القيمة أمام عملات الدول الصناعية المتعاملة مع الاقتصاد الوطني السعودي، أو نتيجة اتفاقات دولية متمشية لأفكار الاقتصاد الجديد تؤدي لارتفاع أسعار المنتجات الزراعية والمنتظر أن تتعرَّض لزيادات أكثر في الأسعار لنقص في مخزون المحاصيل الزراعية مستقبلا للتحول المخيف في استخدامات المنتجات الزراعية لتوفير بدائل للطاقة و"تقليد" التعامل الوزاري محليا للمشكلات الناتجة عالميا لتغيرات الأحوال الاقتصادية الاجتماعية من منظور (ليس بالإمكان أحسن مما كان).
الاستسلام لزيادة الأسعار تترتب عليه ارتفاعات عشوائية انتهازية في الأجور واشتعال لأسعار الأراضي وضغوط سالبة على سوق المال. التمسك بالمعدلات الرسمية للتضخم يزيد من حسرة المواطن ويعظـِّم من الشكوك والريبة في الإحصائيات الرسمية. تناقل الأفكار لتزايد السيولة واحتوائها بأفكار تقليدية وآليات "مبرقعة" وتحفظات جدل أكاديمي لا يطعم ولا يسمن من جوع. الاقتصاد الوطني السعودي تتوافر له كثير من المقومات المُهدرة والفرص الاقتصادية الاجتماعية والتوجهات التي كثيراً لا تخدم المصلحة العامة. التجارة الدولية صادراتها الرئيسية ترعاها نظم حكومية والخاصة تهتم بها هيئة رسمية ترعى مصالح المصدرين. تجارة الواردات الدولية تسير على الهدْى التي بدأت وتوسعت في منتصف القرن الماضي دون سياسة واضحة المعالم من الوزارة المعنية ولا نهج تجاري فاعل من الغرف التجارية السعودية. المشكلات المرتقبة والتوقعات المحتملة لتجارة الواردات الدولية تنعكس دوماً في زيادة الأسعار. كلفة المعيشة : أمور لا تهتم بها الوزارة المعنية ولا تعتني بها غرف التجارة. للجامعات ومراكز البحوث العلمية دور كبير في استثمار معارفهم في تطوير الموارد والمنتجات لتوفير البدائل وخفض الأسعار. هنالك طـُرق كثيرة لمتابعة الأسعار: أقلها جدوى سعر الفائدة البنكية وأنفعها تسخير العلم والمعرفة لزيادة معروض السلع والخدمات عن الطلب بأكلاف مزاحمة.
زيادات الأسعار عند التجار مرض مخاطره يعكسها تخلُّف مستوى القدرة الإبداعية لإدارة الاقتصاد الوطني السعودي لزيادة خصائصه التزاحمية بالعلم والمعرفة والأبحاث لتوفير الازدهار لرفع المستويات المعيشية من أسفل إلى أعلى. والله أعلم.