الصورة الكبيرة .. أهم

تتحدد فاعلية وكفاءة الفعل الاجتماعي والعمل المؤسسي أيا كان بالربط بين المدخلات والعمليات والمخرجات. هذه حقيقة مهمة وضرورية تغيب عن الكثيرين من أصحاب القرار التنموي سواء كانوا حكوميين أو رجال أعمال. ففي خضم الإغراق في مناقشة الجزئيات والتركيز على تفاصيل الإجراءات الفنية الروتينية وتغليب المدخلات وإهمال الحديث عن المخرجات والتأثير النهائي لا يتم الالتفات للصورة الكبيرة والإجابة على التساؤل الأهم: ماذا نريد تحقيقه كمجتمع؟ ولا أدل على ذلك من حالة التشرذم الإداري والتفكك في البنية الاقتصادية وقد أصبحت الأجهزة الحكومية والمنشآت الخاصة جزرا متباعدة تستقل بقراراتها وتتفرد بتوجهاتها. وهي حالة نلحظها حين يسعى كل جهاز حكومي أو مؤسسة خاصة إلى تحقيق أهدافها دون استحضار المصلحة الوطنية الكبرى. وربما كان ذلك بسبب غياب إطار مؤسسي وخطة استراتيجية تعزز العمل المشترك وتحقق التكامل بين جميع أطراف العملية التنموية في علاقة فاعلة واضحة المعالم تحقق المنفعة المشتركة. ونتيجة ذلك يقع ما لم يكن بالحسبان من تعارض وتضاد وتعطيل لجهود تلك القطاعات المختلفة في المجتمع؛ ما يؤدي إلى خفض مستوى إنتاجية الاقتصاد الوطني. ذلك أن النشاط الاقتصادي في أساسه مبني على علاقة اعتمادية تبادلية وترابط بين المؤسسات المختلفة؛ فمخرجات إحداها هي مدخلات لأخرى، وإذا فشلت إحداها باستيفاء متطلبات المؤسسات الأخرى، فإن ذلك يكون له تأثير سلبي يتضاعف ويتراكم مع مرور الوقت ويمتد أثره ليشمل الاقتصاد الوطني والمجتمع برمته. هكذا يدخل المجتمع بجميع مكوناته السياسية والاقتصادية والثقافية دائرة تجتذبه إلى الأدنى إنتاجا وترابطا وكفاءة وفاعلية، وتعوق جهوده التنموية وتبطئ النمو الاقتصادي.
إن النسيج الاجتماعي والترابط الاقتصادي في إطار مؤسسي متماسك وواضح المعالم هو ما يصنع الفرق بين المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتخلفة. فكفاءة الإنتاج وحدها لا تكفي، إذ لابد أن يكون هناك تنسيق بين جهود الوحدات المكونة للعمل الجماعي لتحقيق المستوى المنشود من الإنتاجية. فالإنتاجية تتعزز بالعمل الجماعي المشترك وتتيح الفرصة للأفراد في عمل الأشياء بطريقة أفضل وترفع من مستوى مساهمتهم في العملية الإنتاجية بالتخصصية والتكامل مع الآخرين. وربما فسر ذلك نجاح وإبداع وتميز بعض الكفاءات العربية عندما تتاح لهم فرصة العمل في الدول المتقدمة صناعيا. لأن تلك الدول تمتلك نظما تحقق التنسيق والتعاون والترابط والتكامل بين جهود الأفراد والمؤسسات، وتهيئ الفرصة للعمل الجماعي بنظرة مشتركة واضحة المعالم مبنية على أن المنفعة الخاصة تتحقق من خلال المنفعة العامة والعكس صحيح. هذا الترابط بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة أمر في غاية الأهمية ويتطلب نظما اجتماعية فاعلة تكون بمثابة إطار للفعل الاجتماعي تتكامل فيه جهود الأفراد والمؤسسات بشكل فعال. ولذلك أدركت الدول المتقدمة اقتصاديا وصناعيا أن المجتمع مثل الآلة لابد أن تعمل جميع مكوناته بكفاءة وانسجام وتناغم وإلا عجز أو تباطأ في مسيرته التنموية.
كثير من الدول التي ارتقت درجات عالية في سلم التقدم الصناعي وانعتقت من حالة التخلف كان بفضل نظمها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أتاحت الفرصة في التعاون والتكامل بين مكونات المجتمع وتوظيف الإمكانات باتساق وكفاءة عالية، بحيث يخدم كل قطاع القطاعات الأخرى لتصل إلى مستويات لم تكن لتبلغها إلا بنظم تربط بين المدخلات والمخرجات. إن المجتمعات أشبه ما تكون في سباق لمجموعة من السفن وتعتمد سرعة كل سفينة في المقام الأول على تجديف أفراد المجتمع في الاتجاه الصحيح وبطريقة منسجمة ومتناسقة، ومن ثم تأتي قوتهم في التجديف كعامل مساعد في تحقيق الفوز. فقوة التجديف دون تنسيق وتوجيه تجعل السفينة تحار في وسط البحر وتدور في المكان نفسه. في بعض المجتمعات تمنح هذه الحركة الدؤوبة شعورا خادعا بالإنتاجية والجد والاجتهاد؛ فتركن لذلك وتستمر في النمط نفسه دون أن تنظر للأفق البعيد وترى الصورة الكبيرة وتدرك حقيقة أنها لا تقترب من الشاطئ! لكن هيهات أن تعي ذلك، والجميع منهمك بالعمل لكن دون بوصلة تخبره بالاتجاه الصحيح وتنسق جهوده. ولذا نجد كثيرا من الدول النامية تمتلك موارد طبيعية وبشرية ولكنها تعاني معضلة التخلف، ولم تستطع الانفكاك منه، وأخفقت في مجاراة الدول المتقدمة التي ربما كانت أقل موارد وإمكانات. ذلك أنها لا تمتلك نظاما اجتماعيا ينسق عمل الأفراد ويستخدم الموارد استخداما كفؤا. فأفعال وجهود وقرارات الأفراد والجماعات والمؤسسات لابد أن تتجه لغاية واحدة بحيث يعمل الجميع بوعي ودراية تامة ويعلمون ماذا يتحتم عليهم فعله؟ ومتى؟ وكيف؟ وما علاقته بعمل الآخرين؟ وما الهدف الاستراتيجي الوطني الذي يراد تحقيقه؟ وبدون نظم جماعية متكاملة تحقق الترابط بين المدخلات والعمليات والمخرجات لن تنجح خطط التنمية بالصورة المطلوبة. ولذا كان السبب الرئيس وراء ضعف أداء الاقتصاد أن كل جهاز حكومي ومؤسسة خاصة تعمل على شاكلتها، وتبحث عن تحقيق مجدها؛ فتتسابق نحو الاستحواذ على أكبر مخصص مالي واقتطاع أكبر جزء من الكعكة وكأنها غنيمة وليس استثمارا يحقق المصالح العليا للوطن. ومن مظاهر ذلك في القطاع الحكومي الانتفاخ والتخمة البيروقراطية فقد أصبح معيار التفاضل بين القطاعات الحكومية مقدار ما خصص لها من موارد في الميزانية العامة وليس ما تم إنجازه والتأثير النهائي الإيجابي على المجتمع. وهكذا نجد في ظل السباق المحموم في الاستحواذ وبناء المجد الشخصي للمؤسسة أن هذه الأجهزة والمؤسسات تعمل بمنأى عن بعضها بعضا وكأنها لا تمت لبعضها بصلة؛ فلا يرى القائمون عليها فائدة مرجوة، ولا فرصة مواتية في التعاون والتكامل فيما بينهم ولا يدركون أن تكبير الكعكة الاقتصادية من صالح الجميع. وكأن لسان حالهم يقول: "إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر" هذه هي معضلة التنمية الوطنية غابت الصورة الكبيرة والمصلحة العليا في ذهن المسؤول والعموم فغاب التنسيق وتشتت الجهود، فلم يقو المجتمع على تحقيق طموحاته ودخول نادي الدول المتقدمة على الرغم مما يملكه من إمكانات وموارد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي