اليد الظاهرة واليد الخفية.. في الاقتصاد السعودي

السؤال الذي أبتدر به أول لقاء مع الطلاب المستجدين ببرنامج الماجستير في الإدارة العامة: لماذا نحتاج إلى الحكومة إذا كان القطاع الخاص يعمل بكفاءة ويحقق الاستخدام الأمثل للموارد ويلبي احتياجات وأذواق المستهلكين المتعددة؟ يحار معظم الطلاب في الإجابة عن هذا السؤال، وأظن أن الكثير منا عموماً لا يملكون إجابة واضحة وصريحة، وقد يعود ذلك لأن الغالبية منشغلة بهمومها المعيشية اليومية والسعي حثيثا لتحقيق مصالحها الخاصة، وبالتالي لا تشكل القضايا العامة أولوية لها ولا تسترعي انتباهها وتظل هامشية لديها. والسبب أنه من الصعب رؤية المصلحة المشتركة فضلا عن إدراك أهميتها. فعلى الرغم من أهمية الحفاظ على البيئة على سبيل المثال إلا أن معظم الناس لا يلقي لها بالاً لأن إدراكها يتطلب نظرة مشتركة بعين الجماعة وليس من زاوية فردية، فالمصلحة العامة ليست حصيلة مجموع المنافع الفردية! ولكن في ظل اقتصاد ريعي وبسبب الطفرات الاقتصادية تعززت النظرة الفردية للحياة وسبل المعيشة، وطغت على النظرة الجماعية، فصار الناس - مستثمرون ومستهلكون - يلهثون وراء تحقيق مصالحهم الفردية، وتسيطر عليهم الأنانية وحب الاستحواذ دون رابط جماعي يحقق المنفعة الجمعية، حتى أصبحت المصلحة العامة نسياً منسيا. والنتيجة اقتصاد مالي وليس إنتاجيا، اقتصاد مزدهر لكن لا يقوى على المنافسة العالمية، اقتصاد غني لكنه ضعيف يعجز عن توظيف المؤهلين للعمل، اقتصاد ثري لكن غير عادل يوسع الهوة بين الأغنياء والأقل حظا ويقلص الطبقة الوسطى التي هي العامود الفقري لأي مجتمع. ومما زاد الطين بلة اعتقاد الكثيرين من المسؤولين واعتناقهم فكرة أن القطاع الخاص بمقدوره قيادة التنمية الوطنية! وهو اعتقاد خاطئ وخطير يقود لمفسدة عظيمة! فهذا ما لا يستطيعه القطاع الخاص حتى ولو كان بالغ الرشد كما في الدول الصناعية المتقدمة. فما الحال والقطاع الخاص في السعودية يحبو ويعتمد على الإنفاق، والدعم الحكومي ولا يكاد ينفك من إنتاج سلع استهلاكية تجميعية ليس لها من الصناعة الوطنية إلا ما كتب عليها "صنع في السعودية"، إذ إن جميع مدخلاتها سواء المواد أو الآلات أو العمالة جميعها مستوردة. فلا خبرة تراكمية، ولا بناء لمعرفة تقنية، ولا بحوث تطويرية، ولا صناعات تحويلية أصيلة، ولا منتجات بميزة تنافسية. من أجل ذلك لا يمكن للقطاع الخاص قيادة العمل الوطني التنموي لأن ذات الميزة التي تجعله يحقق الكفاءة في الإنتاج (الدافعية نحو الربحية بأسرع وقت وبأقل تكلفة) تعجز عن إدراك المصلحة العامة وربما تعارضت معها. إن تقييم دور القطاع الخاص يعتمد على مستوى ما يضيفه من قيمة للاقتصاد الوطني. وهذه القيمة تأتي على شكل مبتكرات واختراعات تقود لإنتاج سلع تنافسية على مستوى الاقتصاد العالمي وتعزز قطاع التصدير. لكن واقع الحال أن القطاع الخاص السعودي يقتات على الإنفاق والحماية والدعم الحكومي، ولا يكاد يقدم في الغالب ما يبرر هذا الدعم العام وتحقيق المصلحة العامة. ومع ذلك هناك سباق محموم لمنح القطاع الخاص دورا أكبر في الاقتصاد دون خطة وطنية تقوده وتوجهه وتكون بمثابة جسر يعبر من فوقه نحو المستقبل، ويجعل السعودية في مصاف الدول الصناعية المتقدمة كما فعلت كثير من الدول النامية وحققت نجاحات كبيرة مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا وغيرها.
ولا شك أن دور الحكومة في المجتمع وقيادة دفة العمل التنموي أمر في غاية الضرورة. وقد تكون صياغة السياسات العامة ووضع الاستراتيجيات والأطر القانونية أحد أهم أدوار الحكومة في إدارة المجتمع والاقتصاد. فمهمة الحكومة الأولى تنظيم المجتمع وحماية الناس من بعضهم البعض وتحقيق الأمن والسلم الاجتماعي. ولذا فإن افتراض الاقتصاديين وأولهم آدم سميث في أن آلية السوق أو ما أسماه "اليد الخفية" في أنها كفيلة بتحقيق الكفاءة والعدالة في استخدام الموارد الاقتصادية لا يتحقق دون ضابط للمتعاملين في السوق يتمثل بالسلطة العامة "اليد الظاهرة" للتأكد من حفظ حقوق البائع والمشتري وضمان المنافسة وكسر الاحتكار. فقد يطغى بعض المتعاملين في السوق على بعضهم البعض في سبيل تحقيق كل طرف منفعته الخاصة ما يستلزم بالضرورة تدخل طرف ثالث للتأكد من تأدية كل طرف لحقوق الآخر. ولا يتوقف دور الحكومة عند هذا الحد بل تقوم بضبط وتوجيه الاقتصاد في حالات التضخم والركود من خلال السياسات المالية والنقدية الكفيلة بتحقيق التوازن وخفض البطالة وتحفيز الاستثمار. فهناك أوضاع اقتصادية يعجز القطاع الخاص عن مواجهتها، لأن الدورات الاقتصادية بين ارتفاع وهبوط، ولا يمكن التنبؤ بها على وجه الدقة، وتأتي دون مقدمات أو أسباب واضحة ومفهومة، ما يتطلب تدخل الحكومة لإعادة الأمور إلى نصابها وتحقيق التوازن المطلوب. وفي ذات السياق وبدافع زيادة الإنتاجية يقوم القطاع الخاص باستنزاف الموارد المحدودة ما يضر بالبيئة ويعطل استدامة التنمية، وبالتالي يكون من الأجدى للحفاظ على الصالح العام تدخل الحكومة لمنع القطاع الخاص من مزاولة هوايته الشرهة في الحصول على أكبر ربح ممكن. ومع ذلك يفشل أو يعجز القطاع الخاص عن إنتاج السلع والخدمات العامة بسبب الوفورات واستهلاكها جماعيا وعدم تجزئتها أو استثناء أحد من الاستفادة منها مثل الطرقات في المدن وإنارتها.
إن الدور الأساس والمهم الذي تلعبه الإدارة الحكومية في المجتمع لا يمكن إنكاره أو التغافل عنه. ولابد أن يعي الجميع أن مستوى التنمية، بل ومستوى المعيشة مرتبط بمستوى الخدمات الحكومية، ولا يمكن بأي حال - خاصة في بلد نام مثل السعودية - إهمال الاهتمام بتطوير الإدارة العامة (الإدارة الحكومية) عملياً وعلمياً. عملياً بالتأكيد على تناول عملية الإصلاح الإداري بعمق وشمولية في إطار مؤسسي يعيد التفكير بنظام الإدارة العامة وأسلوب صناعة اتخاذ القرار العام. أما من الناحية العلمية فهناك ضرورة قصوى في إنشاء وتطوير أقسام الإدارة العامة بالجامعات السعودية بدلاً من الاعتقاد الخاطئ في أن تخصص إدارة الأعمال يحل محلها! وهذا ينافي الواقع والمنطق، ففي جميع دول العالم وعلى الرغم من التوجه نحو منح القطاع الخاص دور أكبر في الاقتصاد، إلا أن هناك توسع في مجال تدريس الإدارة العامة حتى في تلك الدول التي هي معقل الرأسمالية واقتصاد السوق مثل الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا. لقد وعت تلك الدول لحقيقة أن تطوير القطاع الحكومي متطلب أساس لتطوير القطاع الخاص بل اقتصاداتها الوطنية، فسعت كمجتمعات واعية إلى تطوير أقسام الإدارة العامة حتى أنه تم تحويل بعضها إلى كليات للدراسات الحكومية. لقد حان الوقت للتفكير الجمعي، والاهتمام بتطوير أداء السلطة العامة لأنها مفتاح التنمية، وأولى الخطوات العملية في هذا الاتجاه هي إنشاء أقسام للإدارة العامة بالجامعات السعودية وتطبيق المعايير المهنية للإدارة العامة في مكان العمل. ولنتذكر دائماً أن اليد الظاهرة .. تأخذ باليد الخفية!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي