التعتيم على المعلومات.. إلى متى ؟

[email protected]

تبذل المملكة جهوداً ملموسة في سبيل توفير بيئة جاذبة للاستثمارات من خلال آليات متنوعة من بينها مراجعة الإجراءات القائمة وإصدار أنظمة جديدة تتلاءم مع المعايير المتعارف عليها دولياً كنظام الضريبة, نظام السوق المالية, نظام مراقبة شركات التأمين, نظام مكافحة غسيل الأموال, وغيرها من الأنظمة. ومن تلك الآليات أيضاً التي تبنتها المملكة التعامل بشفافية مع المؤسسات الدولية للتصنيفات الائتمانية ما يطمئن المستثمرين بقدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية. كما شكل انضمام المملكة قبل عامين إلى منظمة التجارة العالمية رسالة واضحة للمستثمرين في الداخل والخارج بأن المملكة أصبحت جاهزة لكل الأعمال, أو كما يقال بالمصطلح الإنجليزي Ready to do business.
لم تكتف المملكة بتلك الخطوات فحسب, بل تعاملت بجدية مع إحدى أصعب العقبات التي تواجه المستثمرين ألا وهي الحصول على أراض بأسعار مناسبة تتوفر لها الخدمات لبناء صناعات ومشاريع تساهم في زيادة الدخل الوطني وتقديم فرص عمل جديدة للمواطنين. إذ تمت مضاعفة مساحة المناطق الصناعية في كل من الجبيل وينبع ورُصدت لها مبالغ سخية لتزويدها بالتجهيزات الأساسية, كما نجحت الهيئة العامة للاستثمار في تكوين تحالفات دولية ومحلية من القطاع الخاص لبناء وتجهيز مدن اقتصادية عملاقة في كل من رابغ, حائل, وجازان, والبقية آتية في الطريق, بإذن الله. تلك المدن ستضع في متناول المستثمرين ورجال الأعمال بشكل عام مساحات تقدر في مجموعها بمئات الملايين من الأمتار المربعة بشروط ومزايا منافسة.
لكن, وبالرغم من كل تلك التطورات الإيجابية, يرى بعض المراقبين أن إقبال المستثمرين (أجانب وسعوديين) على السوق السعودية لا يزال متواضعاً مقارنة بحجمها والفرص التي يمكن أن تقدمها, كما يرون مبالغة واضحة في تسعير عطاءات المقاولين والموردين. ويعزو أولئك المراقبون ذلك الإقبال المتواضع من جانب والمبالغة في الأسعار من جانب آخر إلى عدة أسباب, أهمها: صعوبة الحصول على عمالة مدربة سواء محلياً أو عن طريق الاستقدام, وغياب المعلومات عن اقتصاد المملكة وسوقها المالية. وقد تصدى مجلس الوزراء لجوانب من مشكلة العمالة منها ما صدر في جلسته بتاريخ 17/1/1428هـ بتخفيض نسبة السعودة في قطاع المقاولات إلى 5 في المائة فقط, وعدم اشتراط "سعودة " الوظائف الفنية التي لا تتوفر في سوق العمل المحلية.
أما قضية غياب المعلومات فهي في الواقع مشكلة مزمنة إذ سبق أن صدر قرار من مجلس الوزراء قبل ستة أعوام يقضي بالموافقة على نشر البيانات الاقتصادية والمالية وغيرها المتعلقة بالمملكة. ولم يقتصر ذلك القرار على تفصيل حزمة واسعة من تلك البيانات المعنية فحسب, بل قضى بأن تقوم الأجهزة الحكومية باستكمال إنشاء قواعد معلومات متكاملة, وأكد على عدة مبادئ في مقدمتها أن يكون نشر البيانات بشكل دوري منتظم. كما أكد على متابعة تحديث تلك البيانات ونشرها أولاً بأول كي لا تفقد قيمتها وفائدتها للآخرين من صناع القرار والمستثمرين والباحثين.
وبالرغم من مضي فترة طويلة على صدور ذلك القرار ما زلنا نتطلع إلى البيانات التي قضى بنشرها, وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا إننا إن لم نبحث عن آلية جديدة لجمع تلك البيانات ونشرها قد لا نراها إلى الأبد!
إن غض الطرف عن مشكلة ندرة المعلومات الاقتصادية والمالية في المملكة يكلفها مبالغ طائلة على شكل تحوطات في عطاءات المقاولين, ويفوت عليها الكثير من الفرص الاستثمارية لصالح بعض الدول المجاورة كما أنه يجهض الخطوات الجبارة التي قطعتها في سبيل تهيئة بيئة استثمارية جاذبة. لننظر كمثال إلى التقرير الذي نشرته جريدة "الشرق الأوسط" في عددها الصادر بتاريخ 30/1/1428هـ عن زيارة رجال أعمال وممثلي شركات ألمانية للغرف التجارية الصناعية في الرياض. إذ جاء في ذلك التقرير أن الضيوف الألمان "انتقدوا القصور في المعلومات والبيانات في قطاعي التجارة والاستثمار، الأمر الذي يعيق من طموح الرفع من حجم المشاريع الاستثمارية والعلاقات التجارية". ومن المؤسف أن تلك الشكوى لم تكن الأولى كما أنها لن تكون الأخيرة.
إن جمع البيانات الاقتصادية والمالية وتبويبها ثم نشرها عبر قنوات مُيّسرة وسريعة بشكل خام أو بعد معالجتها وتحليلها أصبح يشكل صناعة مهمة ومربحة في الدول المتقدمة ما يدعو إلى ضرورة الالتفات إلى محاكاة ذلك النموذج في المملكة ولكن على مستوى وطني خارج الإمكانات التقليدية المتواضعة للمؤسسات الحكومية. بالطبع هناك صور كثيرة لما يمكن أن يكون عليه ذلك النموذج من بينها تأسيس شركة مساهمة عامة تُسند إليها حصراً تلك المهمة. لكن في كل الأحوال لا بد من أن يكون هناك بطل Champion يتبنى مثل تلك المبادرة لديه القدرة على التغيير وإدارته, وقد يجد المجلس الاقتصادي الأعلى أن الوقت قد حان للبحث عن ذلك البطل لاحتضان تلك المبادرة ودفعها للحاق بالمبادرات الأخرى الناجحة للمملكة لتحسين بيئة العمل والاستثمار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي