الشركات الغربية تسترجع دروس الماضي وتفكر في حلول للمستقبل

الشركات الغربية تسترجع دروس الماضي وتفكر في حلول للمستقبل

تصور أنك تتجه للعمل يوماً ما وتجد نفسك وقد تكبدت خسائر بالغة تصل إلى مليون جنيه إسترليني في يوم واحد نتيجة الأحداث السياسية التي لا تستطيع التحكم في مسارها. هذا حصل بالفعل لشركة آرلا الدنماركية ـ السويدية للمنتجات الغذائية التي تصنع زبدة لورباك الشهيرة وغيرها.
وقدرت خسائر الشركة بنحو 300 مليون جنية إسترليني في سوق الصادرات الخارجية إلى بلدان الشرق الأوسط وكان هذا نتيجة نشر الصور الكرتونية المسيئة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. وكان أول إجراء اتخذته الشركة هو تسريح 100 من عمالها ونشر إعلانات لا حصر لها في الشرق الأوسط تحاول تبرئه ساحتها مما حدث بعد أن ظلت الشركة تبني اسمها وسمعتها في الشرق الأوسط لمدة زادت على أربعين عاما وفجأة انهارت السوق في أيام معدودة.
وكان لمقاطعة السعودية تحديدا أكبر الأثر في التجارة الدنماركية التي وصلت خسائرها إلى 30 مليون ريال، وفي مصر تسابقت المحال والمراكز التجارية الكبيرة في إعلان حظر بيع المنتجات الدنماركية كما قررت نقابة الصيادلة في محافظة الإسكندرية شمالي مصر وقف استيراد الأجهزة الطبية والصيدلانية الدنماركية. كما انتشرت رسائل الجوال تحث الناس على التقيد بالمقاطعة وإدراج أصناف المنتجات الدنماركية الواردة في قائمة للمقاطعة.
وفي كل الأحوال يمكن القول إن مقاطعة السلع والمنتجات المختلفة ليست أمراً مستجداً لكنها كانت هذه المرة أكثر تنظيماً وأوسع انتشاراً وأكبر أثراً. ولهذا السبب تحديدا بدأ التفكير في الغرب عن مواجهة أسلوب المقاطعة، ومن خلال استرجاع الدروس التي مرت بها الشركات خلال العشرين عاما الماضية يلزم القول إن على الشركات عدم إغفال التطورات السياسية الجارية على الساحة. وكثيراً ما حاولت الشركة إغفال هذا الأمر وتجاوز مقولة الخبير بيتر دروكر قبل زهاء نصف قرن والتي أكد فيها ارتباط المجتمع الصناعي بالسياسة بشكل أو بآخر. وفي الوقت الحاضر نشهد أدلة مقنعة على اندماج التجارة بالمجتمع إلى حد اعتبار الدراسات السياسية والثقافية جزءا لا يتجزأ من المسار التعليمي المشترك لسلسلة الإمدادات التجارية.
يعود مفهوم المقاطعة التجارية أصلاً إلى حركة التحرر المضادة للعبودية التي نشأت في بداية القرن التاسع عشر والدعوة لتحرير الزنوج في الولايات المتحدة من العبودية. المصطلح نفسه ظهر بعد عقود طويلة عندما احتج المزارعون الأيرلنديون الكاثوليك على الأجور المتدنية التي كانوا يتلقونها من أرباب العمل، وعندما تم طرد المزارعين من أراضيهم كرد فعل لأرباب العمل والإقطاع انضم آخرون لهذا التجمع وتوقفوا عن الاتجار مع هؤلاء وأصبح الاحتجاج وموجة الإضرابات أكثر قوة ومناعة, ما أجبر الإقطاع على استدعاء عمال من الطائفة البروتستانتية ليحلوا محل المضربين المحتجين. لكن النتيجة أن أجور هؤلاء العمال الجدد تجاوزت قيمة المحصول الزراعي بحد ذاته. وفي السنوات اللاحقة حققت المقاطعات نجاحات معقولة رغم أن مقاطعة التفاح المستورد من جنوب إفريقيا احتجاجاً على سياسة التفرقة العنصرية لم تنجح حتى في تقليص الفترة التي كان يقضيها الرئيس نيلسون مانديلا في السجن حينذاك.
قرر بنك باركلي الشهير, من جهة أخرى, الانسحاب من جنوب إفريقيا عام نتيجة الحملة الطلابية في بريطانيا على سياسة البنك, ما أدى حينها إلى انخفاض أسهم البنك بمقدار النصف. وبالطريقة نفسها لم يشر شعار شركة نايك للصناعات الرياضية إلى ظروف العمل السائدة في المصانع الآسيوية التي اضطرت في نهاية المطاف إلى تصفية الكثير من أعمالها ومنتجاتها في التسعينيات من القرن الماضي، كما أصبح شعار الشركة مثار احتجاج شديد ضد شروط العمل المجحفة والأجور المتدنية للعاملين فيها.
الحملة ضد نايك أفرزت معايير إصلاحية جديدة ضمن الشركة بما في ذلك واقع تنفيذي جديد واختيار نائب رئيس آخر للشركة كما شمل البرنامج تعيينات كبيرة وتدابير إشرافية ومراقبة ودراسة مدى الضرر الحاصل على الشركة نتيجة هذه الإجراءات التي لم تستكمل بعد. وخلال هذه الفترة والإصلاحات الجارية في نطاق الشركة تحسن وضع الشركات واستعاد حجم المبيعات والأرباح حيويته المعهودة من قبل إلى حد ما.
لكنها تضررت معنوياً بلا شك، وبعد أن كانت الشركة رائدة في صناعة الأدوات والملابس الرياضية انخفض سعر السهم فيها إلى النصف. وكما قال بولي تورنيس مدير البرنامج لجامعة كامبردج لمساعدة رؤساء الشركات على فهم آفاق القلق الاجتماعي الذي قد يواجه شركاتهم. كورنيس يميز بين الضرر الناجم عن الظروف الصعبة الخارجية والأجور المتدنية للعاملين وبين عوامل الترويج للمنتجات مثل حليب نستله للأطفال.
حملة حليب الأطفال التي بدأت على شكل احتجاج على تسويق حليب نستله للأطفال بديلا للرضاعة الطبيعية استمرت زهاء ربع قرن. في مثل هذه الحالة الضرر الحاصل للدول النامية كان بسبب المنتج نفسه. حملة حليب الأطفال برزت أولاً في تقرير صدر عام 1974م نشر في ألمانيا تحت عنوان "حليب نستله يقتل الأطفال". لكن نستله تصدت لهذه الحملة وربحت القضية في بادئ الأمر لكنها لم تسلم من النقد والتجريح ، كما أشار قاضي التحقيق إلى أن إعلانات نستله لا تخلو من بعض الأخطار والعوامل المضرة بالصحة. المشكلة مع نستله والحليب الجاف, حسبما كشف عنها استبيان أمريكي, لا ترتكز على المنتج نفسه بل على موقع الإنتاج والمياه غير النقية ومكونات الحليب غير المعقمة كما يجب.
لكن استراتيجية نستله تواصلت في إطار دعم عنصر العلاقات العامة وتفريغ الاحتجاجات الشعبية من فحواها وتأكيد التقيد بالمدونة والمعايير الدولية المعتمدة لصناعة الحليب ومنظمة الصحة العالمية لعام 1981. الحملة ضد حليب الأطفال نستله تواصلت أيضاً ورأت أن تقيد نستله بالمدون لا يرقى إلى المستوى المطلوب. كما أشارت منظمة الصحة العالمية إلى وفاة ما لا يقل عن 5ر1 مليون طفل نتيجة تناول نستله في أنحاء العالم والأعراض المصاحبة كالإسهال وغيرها. كما سعت نستله إلى تحسين صورتها في الخارج بنشر التوعية والثقافة التعليمية. لكن الاتهامات التي واجهتها حول التعقيم و نظافة المياه كانت معقدة للغاية و متشعبة لتجد الشركة نفسها في نهاية المطاف في موقف لا تحسد عليه مثلما حدث لشركة نايك وسلسلة مطاعم ماكدونالد الأمريكية للوجبات السريعة التي اختارت اللجوء إلى القضاء واتباع استراتيجية طويلة الأمد لكنها فشلت هذه المرة نتيجة الدعاية المضادة الثابتة. الطرق التي تعزى فيها هذه الحالات إلى الشركات تظهر أهمية عدم إصدار أحكام سلبية أولاً حسبما ذكر جون دورموند المدير التنفيذي للهيئة الاستشارية الموحدة. هذا المدير يرى ضرورة مراعاة الشركات الاعتبارات الأخلاقية والأعراف الاجتماعية السائدة في المعاملات التجارية.
أما "ماكدونالدز" و"نايك" فقد أبدتا اهتمامهما واستعدادهما للتجاوب مع الاجتماعات المحلية والرد عليها بإيجابية, وهذا بدورة سيسهم في إيجاد مجموعة من المساهمين يراعون الجوانب الاجتماعية في العمليات التجارية في أوروبا. لكن عوامل القلق حول الصحة والبدانة اضطرت "ماكدونالدز" لإعادة تقييم موقفها في سوق الوجبات السريعة والتركيز على التغذية المفيدة وتقديم البدائل الصحية خلافاً للهامبورجر وأمثاله في مطاعمها الشهيرة المنتشرة حول العالم. عنصر التغير أصبح أمراً لا مفر منه عند تحول الرأي العام ضد المنتج أو العلامة التجارية.
إدارة "نايك" تجاوبت هي الأخرى مع عوامل التقيد والإصغاء وتبنت سياسة تقوم على اصطفاء العمالة واختيار أفضلها وكذا التعامل مع العوامل الاجتماعية السائدة. ونتيجة لذلك لم تستعد شركة نايك نشاطها الأول, ناهيك عن سمعتها وشهرتها السابقة. وفي 2005 برزت الشركة من بين أفضل 100 شركة حول العالم.
الشيء نفسه قد يعزى إلى شركة شل الكبرى التي انتهكت المعايير البيئية, ما أسفر عن احتجاجات جماعة الخضر ضد تصريف النفايات النفطية لمنصة برنت سبار عام 1995. الغضب العارم الذي واجه الشركة وما تسببت به "شل" في ألمانيا وحدها أصاب السوق التجاري لها في الصميم وأدى إلى خفض حجم مبيعاتها من 50 في المائة إلى 20 في المائة ومن واقع خبرات شركة شل في نيجريا أن اضطرت لتلقي دروس في تجارة العولمة ومضاعفاتها على أوسع نطاق. وأن الشركات الكبرى لا يمكن أن تظل في معزل عن القضايا السياسية التي تحوم في الأفق. وعندما أشار الشاعر النيجيري بين سارو ويوا الحائز على جائزة نوبل في الآداب إلى معاناة الشعب في دلتا النيجر نتيجة تصرفات الشركة والعبث بالطبيعة هناك, وغنى الشركة المفرط وفقر الشعب النيجري, حيث جنت الشركة خلال نصف قرن من الزمن مبالغ تصل إلى 30 مليار دولار من مناطق أوجوني وحدها في الوقت الذي لا تتوافر للشعب المتطلبات الضرورية كالماء الجاري أو الكهرباء, وإنما لهذا الشعب الوقوف متفرجاً وهو يرى المصافي النفطية تلوث الأرض والهواء والمياه وتنقل الكميات الكبيرة من النفط إلى الغرب الغني المتعجرف. وحتى بعد خروج "شل" من البلاد لم يكف الأديب عن كشف ما تحاول التستر عليه, ودعا في أحد المنتديات أمام جمهور كبير من الناس إلى تقديم "شل" وأعوانها إلى القضاء لتنال جزاء ما ارتكبته من أعمال. ووصفت الكاتبة ناديه جوردير الحائزة جائزة نوبل في الآداب أيضاً في جريدة "نيويورك تايمز" شراء النفط النيجيري بأنه يعني مقايضة النفط بالدم.
الاحتجاجات ضد "شل" كانت علامة بارزة في موجة الانشقاق التي كادت تعصف بالشركة. إضافة إلى حركة الشارع التي أشارت إلى ارتباط الشركات الكبرى بالأنظمة التعسفية العقيمة السائدة في كثير من بقاع العالم وإغفال القضايا الملحة التي ترزح تحتها الشعوب المغلوبة على أمرها والشرائح الفقيرة المعدمة هناك.
من جهة أخرى قامت المجموعات الدينية المحافظة ومن بينها جمعية الأسرة الأمريكية بمقاطعة فروع تجارة التجزئة في الولايات المتحدة لأنها استبدلت عبارة عيد الميلاد المسيحي بكلمة الإجازة السنوية المعتادة وانضم إليها أكثر من 23 جمعية أمريكية في أنحاء البلاد كافة ما حدا بشركة فورد إلى وقف إعلاناتها التي أشارت إلى الإجازة المعتادة من قبل.
الشركات الأخرى لم تكن في منأى عن التطورات الاجتماعية الجارية على الساحة. الشعارات الرنانة التي كانت تطلقها الشركات منذ التسعينيات استبدلت بالواقعية والشعور الأفضل بمعاناة الطرف الأخر. لكن على الشركات عموماً إذا أرادت النجاح الأمثل الدفاع عن مرتكزاتها بجدارة وكفاءة لحماية نفسها من موجات المقاطعة التي قد تعصف بها بين عشية وضحاها ولا تبقى أخضر ولا يابسا.
ولنعد إلى حملة المقاطعة الأخيرة للمنتجات الدنماركية, ففي الدول الإسلامية يرفع شعار: "إذا واصلنا المقاطعة ضد المنتجات الدنماركية حتى الصيف المقبل فستصل خسائر الشركات الدنماركية إلى مبالغ تصل إلى 36 مليار دولار على الأقل", وهذا يدل على وعي كامل ومنظم وواسع ليشمل أركان النظام الرأسمالي برمته وعلى الشركات مراعاة ذلك أولاً وأخيراً.

الأكثر قراءة