من يحمي المراجع الداخلي ــــ قضية مدينة الملك عبد الله الطبية في مكة؟

سؤال مباشر وصريح: هل بدأ مجلس الشورى يعي خطورة قضية استقلال المراجع الداخلي بعد الذي حصل في مدينة الملك عبد الله الطبية في مكة؟ وهل الجميع الآن يتفهم لماذا نصر على الاستقلال وأن من يقوم بتعيين المراجع الداخلي وعزله وتحديد مستحقاته ومكافآته هو مجلس الإدارة أو أي تنظيم شبيه، أو لجان مراجعة مستقلة يتم تعيينها من جهات خارج الجهة محل عمل المراجع الداخلي؟ فوفقا لصحيفة "الوطن أون لاين"، "فقد تم إنهاء تكليف مدير إدارة المراجعة الداخلية في المدينة الطبية في العاصمة المقدسة" - انتهى الخبر. هكذا ببساطة تم إنهاء تكليفه كأي موظف مغضوب عليه، فهو في نظر الجميع مجرد موظف يجوز للمدير التنفيذي أن يعزله كما وظفه، الأمر في نظر الجميع بسيط، لكن ما حصل يمثل كارثة مهنية. فعلى الرغم من مرور المدينة الطبية بحالة اضطراب كبيرة وهناك اتهامات واسعة متبادلة بين أطراف عدة وتحقيقات مستمرة ولم يصدر تصريح واضح حتى الآن من وزارة الصحة، فإن هذه الإقالة في هذا التوقيت تثير أسئلة هائلة جدا، منها ما له علاقة بالمشكلة الأساس التي ناقشت فيها مجلس الشورى وهي استقلال المراجع وحمايته، ومنها ما له علاقة بالحدث نفسه وقضية المدينة الطبية.
وعودا على بدء فإنني أقول وللمرة الألف إن الاستقلال قضية أساسية في عالم المراجعة، هو عمودها، من دونه قل على مهنة المراجعة السلام. إنها السند الوحيد الذي يحمي المراجع من تعسف الإدارة، ويمنحه القدرة على التعامل مع الإدارة التنفيذية بلا خوف، فهي الطريق الأمثل الذي يجب أن تسير فيه أي دولة تريد مكافحة الفساد، والإصلاح الإداري. وعندما نتحدث عن الاستقلال وخاصة للمراجع الداخلي فليس معناه انعزاله التام عن مجتمع المؤسسة التي يعمل فيها وليس معناه العمل البوليسي "إذا جاز التعبير" بل يجب أن يكون متعاونا جدا وداعما إلى أبعد حد ويقدم توصياته بحكم خبرته، ويكون الذراع الأيمن الأمين للمسؤول التنفيذي وغيره من الإدارات، ولكن يجب أن يعي الجميع في المؤسسة ألا أحد يستطيع التأثير عليه أو إجباره على أن يقرر شيئا بخلاف قناعته أو أن يتم تهديده أو عزله أو التأثير من خلال أتعابه أو تدريبه لأن كل ذلك يكون لمجلس الإدارة فقط أو للجان مراجعة مستقلة ومعينة بشكل مستقل.
عندما ناقش مجلس الشورى قبل عدة أشهر قضية استقلال المراجع الداخلي وأصر المجلس حينها وفي خطوة مفاجئة على أن يكون تعيين المراجع الداخلي وعزله من قبل الجهاز التنفيذي، أصبت حينها بخيبة أمل كبيرة، ذلك أنني كنت آمل من مجلس تشريعي مستقل أن يسعى لدعم استقلال الأدوات الرقابية والفحص والتقييم في كل المؤسسات، وخشيت وقتها على مستقبل مهنة المراجعة الداخلية، وكنت على حق. فلم يمض وقت طويل حتى ظهرت على الساحة قضية مدينة مكة الطبية، التي تعرض فيها المراجع الداخلي للإعفاء من منصبه لأنه وفقا لما نشرته صحيفة "الوطن أون لاين" يوم الأحد الماضي قد رفع إلى وزير الصحة ومستشاريه الأسباب الحقيقية التي قال إنها خلف إنهاء تكليفه "لاحظ أنه قد تم إعفاؤه من شخص آخر غير الوزير"، واعتبر فيها أن إدارة المراجعة الداخلية تعرضت لضغوط نتيجة قيامها بمهام عملها وفقاً للائحتها التنظيمية، وأن هناك تضييقا واسعا على نطاق أعمال المراجعة الداخلية كما لم يستبعد صدور قرار بالاستغناء عن خدمات موظفي المراجعة الداخلية بحجة عدم الحاجة، إذ تسعى الإدارة إلى تهميش دور الرقابة والمراجعة الداخلية والحد من صلاحياتها "انظر كيف يمكن للإدارة أن تتخذ قرارات واسعة بحث جهة إشرافية على عملها".
وبغض النظر عن جميع ما ورد في التصريح من مشاكل مالية وقضايا أخلاقية مهنية خطيرة، فإن القضية الأساس في هذا المقال هي من يحمي المراجع الداخلي إذا كان بإمكان الجهة إعفاؤه لمجرد الخلاف معه؟ والسؤال المهم: ما هو الأثر الواسع على كل المراجعين الداخليين في وزارة الصحة الذين علموا بهذا الموضوع، وأنه تم إعفاء المراجع الداخلي ولم يتم انصافه وإعادته إلى منصبه، وكيف لهم بعد اليوم أن يرفعوا بتقرير واحد أو أن يعترضوا على تصرف من تصرفات الإدارة التنفيذية التي يعلمون فيها؟ أريد من مجلس الشورى الإجابة، وأتمنى أن أسمع عن جلسة خاصة لهذا الموضوع ومناقشة التقارير المرفوعة فيها وتشكيل لجنة تقصي حقائق إذا كان نظام المجلس يجيز ذلك.
وسؤال آخر مهم في هذا الموضوع، ما هو دور ديوان المراقبة العامة في كل هذه القضية؟ أين هو؟ وأين دعمه للمراجعين الداخليين؟ ألم يعمل الديوان جهده من أجل إنشاء وحدات المراجعة الداخلية، فأين هو اليوم من قضية بهذا الحجم؟ ولن أسأل أين كان أساسا وكل هذا الخلاف الحاد يعصف بالمدينة، والمراجع يرفع تقارير بهذه الخطورة؟
إذا كنا فعلا نريد بناء مهنة المراجعة الداخلية، ونحن صادقون في ذلك، وإذا كنا نريد حماية المال العام من الفساد ومن استغلال السلطة والحد من الهدر وسوء استغلال الموارد، فإننا يجب أن نأخذ موضوع المراجعة الداخلية بجدية أكبر، أن نعمل على تطوير هذه المهنة، وحماية استقلال المراجعين الداخليين، فإذا لم نفعل ذلك فإن ما حدث في قضية مكة الطبية هو فقط البداية وسيتكرر قريبا كموجة عاتية، وعندها قد نتخذ قرارات سريعة غير محمودة العواقب. الآن وقبل أن يستفحل هذا المرض احموا المراجع الداخلي واضمنوا استقلاله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي