مفهوم «الجهاد» وبعض مردوداته

ليست غايتي الولوج في مسائل فقهية لأن هذا ليس من اختصاصي أولا، وثانيا الفقهاء أنفسهم يختلفون في تفاسيرهم التي لا نستطيع إلغاء تأثير الزمان والمكان عليها وكذلك تأثير السلطة. إننا بشر ولسنا ملائكة والبشر بطبيعته مخلوق ضعيف.
بيد أنني أحاول في هذا العمود، الذي صارت لي معه علاقة وجدانية وأصبح جزءا من العالم الخاص الذي أعيش فيه، استخدام ما وهبني الله من علم ومعرفة لتحليل الأوضاع والنصوص كون تحليل الخطاب واحد من اختصاصاتي الجامعية.
وقد قلت في تحليل الخطاب ومنه الخطاب القرآني الكثير في هذا العمود، وأخشى أحيانا الوقوع في مرض التكرار وهو مرض أكاديمي سببه إننا نحن الأكاديميين متهمون بعدم المقدرة على الخروج من إطار الرسالة الجامعية التي قدمناها للحصول على شهادة الدكتوراه.
ولكل دين أركان، وللإسلام أركان خمسة ولكن هناك من الفقهاء والمشايخ من يضيف ركنا سادسا وهو الجهاد. والجهاد إن اتخذته ركنا بموازاة الأركان الخمسة أم لا يبقى ذا أهمية بالغة في الإسلام بغض النظر عن تفاسيره المختلفة.
والاختلاف ضمن الأديان ــــ ليس الأديان المختلفة ــــ بل الدين الواحد ظاهرة إنسانية طبيعية لأننا كبشر نفسر النصوص بطرق مختلفة والتفسير البشري يلد لنا مذاهب وطوائف وفرقا مختلفة، وسنبقى نفسر ضمن نطاق عقلنا المحدود وبشريتنا الضعيفة، وستلد تفسيراتنا مذاهب وفرقا جديدة انعكاسا لمكانتنا وتأثيرنا ضمن المحيط والزمان والمكان الذي نعيش فيه والسلطة التي تسندنا أو التي لدينا.
وهكذا يبقى النص الذي يعده أصحابه مقدسا وسماويا ثابتا كما استلمناه، وستختلف تفاسيرنا للنص ذاته من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان ومن نطاق سلطة إلى نطاق سلطة أخرى.
وهناك إشكالية كبيرة قد لا يفقهها الكثير منا وهي أن المفسرين الكبار من الفقهاء ورجال الدين من أي دين غالبا ما يختارون النصوص التي تؤيد وجهة نظرهم ويحدث أن يجزّؤا النص أو يأخذوا العبارة والجملة التي تتماشى مع مواقفهم ضمن المكان والزمان ورغبات السلطة.
هذا موقف له الكثير من البراهين في العصر الحالي وينطبق على كل الأديان التي يقول أصحابها إنها من السماء وينطبق ويتماشى مع مبتغى السلطة التي تستند إلى نص محدد أو عبارة محددة من الدستور مثلا لبسط سلطتها أو لتمشية أمر ما ترغب فيه كي تهزم المناوئين لها. والسلطة من أكثر المستغلين للنصوص لا سيما النصوص الدينية في أغلب المجتمعات ولكن بشكل أكبر في المجتمعات المحافظة.
والإشكالية الكبيرة تقع عندما يُدخل الفقيه ورجل الدين ــــ من أي دين ــــ في عقول أتباعه أن تفسيره يرقى من حيث القداسة والأهمية إلى مصاف القدسية والسماوية التي يمنحونها لنصوصهم. في هذه الحالة تخطف السلطة الدينية والمدنية التي تستغلها النص والناس وتجعلهم رهينة تفسيراتها.
وهناك إشكالية أكبر من هاتين الإشكاليتين وهي التشبث بالتفسير رغم عواقبه الوخيمة على أتباعه أولا وعلى النظرة إلى الدين والنص برمته.
وعلى هذا الأساس حوّل التفسير العصري "الجهاد" كما تم تحويل الكثير من المفاهيم في الأديان الأخرى من شيء كان يجب أن يزيد الإسلام منعة وسؤددا ومكانة لدى الأمم إلى مفهوم أخشى أنه بدأ يعطي عكس ما أراده النص له. حيث صار المسلمون يقتلون بعضهم بعضا شر قتل باسم "الجهاد" وينبشون قبور بعضهم البعض باسم الجهاد ويحرقون حتى دور العبادة بسبب الاختلاف الديني والمذهبي ــــ أي التفسير البشري "للجهاد".
بطبيعة الحال سيقول القراء الظلم ليس من الجهاد بشيء. صحيح ولكن كل هذا يقع باسم "الجهاد" ووراءه من يحرض عليه بهذه الصيغة. اليوم عالمنا قرية صغيرة، ما يحدث من تنكيل وذبح وتفجير وهلع وإجرام تراه مباشرة على شاشة الحاسوب والخلوي والخطاب المرافق له يتحدث "عن الجهاد" بصيغة لا يقبلها الله ولا كتابه ولكن مع الأسف الشديد ينسبه أصحابه إليه.
واليوم أصبح الكثير من المسلمين في كثير من البلدان، ليس الأجنبية بل حتى العربية والإسلامية، مثار شبهة وضغط واضطهاد بسبب ما يمنحه البعض من تفسير لكلمة "الجهاد" ووصل الوضع درجة أننا أحيانا نخشى حتى الكتابة بالعربية أو قراءة نصوص عربية في شاشات حواسيبنا في بعض المطارات والطائرات كيلا نخيف المسؤولين والناس وكيلا نُطرد أو نُسجن.
والساسة والنظم لا سيما الغربية منها تستغل هذه التفاسير لمصلحتها ومنافعها. وأخيرا ربما تحقق حلمها حيث صار المسلمون هم من يقتل بعضهم بعضا باسم "الجهاد" بشكل مخيف ومدمر وهم يمدونهم بالسلاح والمال وكل ما يؤمن استمرار القتال حتى الفناء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي