الفيلم الذي لا أنصحك بمشاهدته

الفيلم الذي لا أنصحك بمشاهدته
الفيلم الذي لا أنصحك بمشاهدته

حاولت مشاهدة الفيلم الفرنسي Amour مرة أخرى، لكتابة هذه القراءة عن الفيلم، فتوجست من فكرة الغوص مرّة أخرى في عالمٍ يمعن في إيلام المشاهدين. لا أزال متأزمة نفسياً من ترقبي لمشاهد هذا الفيلم التراجيدي، والتي تعبّر عن عمقٍ إنساني في المشاعر، وارتباط شخصين طاعنين في السن ببعضهما لما يكاد يكون أبدياً، يلتصق كل منهما بالآخر، حتى يعجز جورج عن انتزاع آن من روحه.
الجدير بالذكر أن الفيلم "الحب" الذي كتبه وأخرجه المخرج النمساوي مايكل هانيكي في نهاية عام 2012، قد اختاره أن يكون باللغة الفرنسية بسبب افتتانه بعملاقي السينما جون لويس ترينان "الذي قام بدور الزوج جورج"، وإيمانويل ريفا "التي قامت بدور الزوجة آن"، ورغبته في تقمصهما الدورين، على الرغم من أن كليهما في مرحلة الثمانين عمرياً. يصف المخرج هانيكي أفلامه، كما ذكرت صحيفة ذا جارديان البريطانية، أن إخراجها أسهل من مشاهدتها، فهو والممثلين والطاقم يشعرون بالاستمتاع أثناء الإخراج، في الحين الذي يتوقع فيه من المشاهدين الشعور بالصدمة والانزعاج.

#2#

يبدأ الفيلم بمشهد صادم، حين يتم اقتحام شقة إثر تسرّب رائحة غريبة، ليكتشف وجود جثة امرأة ثمانينية ممددة على سريرها، مزدانة بأزهار ذابلة. ويسترجع الفيلم فيما بعد أحداث حياة روتينية اعتيادية لكل من جورج وآن، يعدّان وجبة الإفطار معاً، ويتجاذبان الحديث ليجدها صامدة كتمثال لا تتحرك. وبعد إجراء عملية جراحية أدّت إلى شللها وتأزّم صحتها، تبدأ بالتلاشي التدريجي، بعد أن تطلب منه أن يتعهدها بعدم إعادتها للمستشفى إن تدهورت صحتها. تتأمل حياتها معه من خلال ألبوم صور قديم، تصفها باقتضاب "الحياة جميلة" و"الحياة طويلة".
تدور أحداث الفيلم كلها في شقة الزوجين فحسب، والتي اعتمد المخرج هانيكي في طرازها على شقة والديه في فيينا. وكأن عالمهما اختصر في تلك البقعة الصغيرة، التي لم تتمكن آن من مغادرتها نتيجة لمرضها. ظهر عالمهما هادئاً مسالماً، وكل الدخلاء عليه من الخارج يعرضونهم للخطر وللضغوط النفسية. ففي بداية الفيلم، تواجد احتمال لص هجم على شقة مجاورة، ومجيء الابنة المكرر الذي تسبب في ضغوط نفسية على الوالدين، إضافة إلى الممرضة المنزلية التي عاملت آن بأسلوب فظ معنف.
يبدأ جورج برحلة ماسوشية مع آن ومرضها، تعانده وهو يحاول الاعتناء بها. تغمغم وهي ترقبه يحاول الجلوس إلى جانبها أبدياً: "تعلم أنه لا يجب عليك أن تمسك يدي طوال الوقت". تعرب عن شعورها بالذل لضعفها واحتياجها المستمر للآخرين. تأبى أن تستقبل حتى ابنتها التي تعترض لخيارهما البقاء في المنزل، وتلوم والدها لحالة والدتها الممعنة في الانحدار. أما هو فيتحمل ويرقب آن حتى تتوصل لحالة تعجز فيها عن الكلام، وتحاول بصعوبة نطق كلمة "ما..ما" المتقطعة كطفلة صغيرة. صنّف سبينوزا المشاعر التي تتضارب في النفس البشرية إلى الرغبة والفرح والحزن، وتتفرّع منها بقيةّ الأحاسيس. ركّز فيلم "الحب" على مشاعر الحزن التي تسكن جورج، ورغبته في تحسن حالة محبوبته الصحية، وفرحه المتضائل لاستمرارية وجودها معه.
يظهر جورج تماسكاً غريباً، فلا ينهار في أي مشهد، ويلتزم هدوءه حتى في اللحظات الصعبة التي تفقد فيها زوجته رغبتها في الحياة. يحلّل الوضع الذي يمرّ به: "ستستمر الأمور على وضعها كما هي الآن. ستتدرج من سيئ إلى أسوأ. وفي يوم ما سينتهي كل شيء.."
ومع انحدار حالتها الصحية، يزداد هوسه بها، وكأن شعوره احتمال فقدانها يزيد من رغبته في الحفاظ عليها. وعلى الرغم من ذلك يعمد جورج إلى استخدام القتل الرحيم، بعد أن وجد آن أمامه تتآكل وتتضاءل جسدياً وعقلياً. يستسلم لرغبتها، بعد أن كان يرغمها على الطعام والشراب لجزعه من فقدانها، يخنقها بوسادتها، ليريحها من ألمها، وليتخلص من الأزمة النفسية التي اضطر للتعايش معها. يستمرّ في طقوسه اليومية وكأنها لا تزال حيّة. يتخيلها في أرجاء المنزل. يحاول إبقاءها على قيد الحياة، حتى أنه يختار لها رداءها المفضل ويحيطها بأزهار ويبقيها في المنزل. التأزم النفسي والعاطفي يستمر حتى نهاية الفيلم. تجد جورج يرتدي معطفه ويلحقها وهو يتخيلها تخرج من المنزل. ويختفي دون معرفة توجهه. فيلم يجسد الحب وفقدانه، المرض وتقدّم السن، الحياة واختيار الموت لمن تحب. لا بد لمن يشاهده أن يكون مستعداً للانغمار بتراجيديا ترهق النفس بسوداويتها.

الأكثر قراءة