إخوان الإخوان

الإخوان المسلمون الذين تدفقوا علينا منذ الستينيات الماضية مع احتدام الحرب الباردة والمد القومي باتوا اليوم موضع النقد الحاد في الفضاءين الإعلامي والاجتماعي بعدما كان توجيه النقد إليهم محظورا، ولم يتم التنبه إلى خطر دولتهم العميقة إلا مع مشارف الألفية الثانية. مع أن الملك عبد العزيز، بثاقب بصيرته ودهائه كان قد أدرك ذلك باكرا حين طلب منه مؤسس الجماعة حسن البنا افتتاح فرع لهم في السعودية، فرد عليه: كلنا إخوان وكلنا مسلمون.
بدأت الأخونة بكتابين ذائعي الصيت والشهرة، احتلا أرفف مكتبات المدارس والمكتبات العامة والمكتبات التجارية وحتى الأرصفة .. الكتاب الأول "معالم في الطريق" لسيد قطب .. ويمثل منفيستو التحريض والخروج على الدولة بغطاء الحاكمية لله ودولة الخلافة، والكتاب الثاني "جاهلية القرن العشرين" لمحمد قطب ويمثل منفيستو العداء للحضارة والتقدم، علما بأن مفهوم "الجاهلية" هو من بنات أفكار سيد، أخذه عنه أخوه محمد فتوسع فيه ردحا ورجما كما كان كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" لأبي الحسن الندوي ينافسهما في الذيوع والانتشار، لكن الكتابين اليوم باتا من المغضوب عليهما إلى حد اختفائهما من المكتبات ما يحرم القارئ من معرفة الحقيقة بالقراءة وليس بالرواية.
لم يكن خطر الإخوان المسلمين خافيا على النخب المثقفة، سواء في التنظيم الدولي لهم فوق الدول والأوطان والشعوب أو في منهجهم الجامع بين سرية ودموية فرقة الحشاشين الإسماعيلية "أتباع حسن الصباح" وبين علانية وتطرف الخوارج أو في طقس قسم المبايعة عندهم المتأثر بالقسم الماسوني في غرفة مظلمة مع شيء من التعديل "وجود مصحف ومسدس" حسبما فضحهم من انشقوا عنهم كالدكتور الراحل عبد العزيز كامل في سيرته "في نهر الحياة"، بل فضحتهم كذلك المصادر الأجنبية مثل كتاب "الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة" لجيمس هيوارث دن، ترجمة أحمد الشنبري، تقديم علي العميم، فضلا عن أن الصدامات على الصعيدين الأمني والسياسي كانت لا تكف عن الحدوث عربيا بين الحين والآخر.
غير أن طغيان تيار الصحوة والسماح له بأن يتسيد الساحة ويملأ المشهد دون سواه، أعطى للإخوان المسلمين زخما هائلا لاجتذاب أجيال من شباب المدارس والجامعات نحو خطهم الأيديولوجي، مستغلين عفوية مجتمعنا المحافظ وطبيعته السلفية التقليدية، وأمعنوا في تحشيد الجمهور حولهم واستثمارهم كمجال حيوي لحراكهم يصطفون من خلاله من يرونه أهلا لأن يكون عضوا في الجماعة ومنتميا لها، مع الدأب على الاستمرار في جذب الآخرين ورعايتهم تحت غطاء الدعوة والمناشط الإسلامية، وهؤلاء الآخرون الكثر، هم ما يمكن أن نسميهم بإخوان الإخوان، الجزء الغاطس من جبل الجليد، والمصدر الدائم للاصطفاء لعضوية الجماعة.
إن انكشاف الإخوان المسلمين مسألة مهمة، لاتقاء شرور أجندتهم ولإقصائهم عن أدوار لعبوها في صياغة حياتنا وعزلهم عن مزيد من التغرير بمن قد تنطلي عليهم تكتيكاتهم الدعوية، على أن الأكثر أهمية من هذا الانكشاف هو التنبه الشديد إلى أن إخوان الإخوان هم فعلا الخطر الكامن، فهم مشحونون بعاطفة ميولها إخوانية متزمتة بحكم الاستهلاك الطويل لكتب وحلقات ومنابر وأشرطة وعاظ الإخوان المسلمين وأحبارهم.
وفي ظل غياب خطاب ثقافي إعلامي بديل وعدم وجود مشروع فكري وطني مستنير يعلي من قيمة العلم والعقل والمعارف العصرية ومن ثقافة العمل والإنتاج، فسيظل خطر إخوان الإخوان تحديا كبيرا، لا سبيل للخلاص منه إلا بمواجهته، ليس بـ "استراتيجية" تثرثر بالكلمات وتتحنط في الأدراج وإنما ببرنامج عمل شامل تستنفر لتنفيذه جهود وإمكانات المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية لإنتاج مكثف نوعي للكتاب الأدبي والعلمي المواكب للثقافات الحية ونشر المكتبات العامة ومكتبة الحي في مدننا وقرانا وإعادة الاعتبار للنشاط اللا صفي الثقافي والفني في المدارس والجامعات وإحياء المهرجانات الشبابية ودعم وتشجيع الهواة والمبدعين والمبتكرين وتبني أعمالهم وإقامة معارض الفنون وإتاحة مناخ للترفيه الحضاري كالمسرح ودور السينما .. هذه وغيرها كفيلة باستعادة روحية الشباب وفتح شهيتهم للإقبال على الحياة وصناعة التنمية عوضا عن أن يبقى "إخوان الإخوان" أرضا خصبة لاستنبات إخوان جدد أو تنامي ثقافة الموت ووباء الكراهية اللتين كرس لهما جهابذة الإخوان عقودا من البرمجة على جاهلية مجتمعهم وفساد عصرهم، ودفعوا بهم إلى التهلكة في أفغانستان والعراق وسورية، مثلما حرضوهم على إرهاب وطنهم.
لكن ذلك يقتضي أيضا أن نتحوط ونحترس في اختيار من يقومون على إعداد وتنفيذ هذا البرنامج وضمان كفاءتهم وأن نتحرر كذلك من هيمنة ذهنية المؤامرة، فلم يكن جيهمان -على سبيل المثال- إلا نبت هذه الأرض، قتلناه لكننا أتحنا لظله أن يملأ علينا الأفق لسنوات، عربد فيها الإخوان المسلمون بتأجيج الصحوة وتفريخ نسلها الجهادي التكفيري.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي