القياس كمؤشر وليس كمقصلة
عندما يتحدث مركز من المفترض أنه يهتم بالقياس العلمي، فلا بد أن نطالب بدعم التصريحات بنتائج مستندة إلى مناهج بحث علمي معتبرة ومحكمة إحكاما عمليا محايدا ومعتبرا، فإذا أضفنا إلى هذا أن المركز يتعامل مع أهم شريحة من المجتمع وهم الشباب، كما أنه يعطي أحكاما عامة عن مستويات هؤلاء الشباب، وكذلك عن مستوى التعليم في المملكة والتعليم الجامعي ككل، وبناء على نتائجه وتوصياته نتخذ قرارات هائلة وخطيرة جدا عن التخصيص والتوزيع والاقتصاد، بل مستقبل التنمية كله، وإذا كان الحال كذلك فلنا الحق كله في أن نطالب هذا المركز عند إصدار أحكامه بأن يقدم الدليل المستند إلى المنهج العلمي المعتبر، وأن تحكم هذه النتائج وتنشر في أهم المراكز العلمية في العالم. أقول هذا بمناسبة تصريح مسؤول (كما أوردته "الاقتصادية") في المركز الوطني للقياس والتقويم، الذي جاء فيه أن اختبارات "قياس" أسهمت في انخفاض نسب التسرب من الجامعات.
ففي هذا التصريح، ربط المركز أداء الجامعات والطلاب والأساتذة بنتائجه، وهذه نتيجة هائلة جدا، فلم يعد يكفي مركز القياس أن حكم على التعليم العام في المملكة وهدم الثانوية العامة بمعوله، وأنه يدعي قياس قدرات الطلاب السعوديين بدقة علمية تفوق دقة الاختبارات في المحطات الفضائية، ولم يعد يكفيه أن تم استخدام نتائجه بطريقة غير منصفة في تصنيف الطلاب عند الدخول للجامعات، حتى أصبحت فوضى عارمة عَمَّت الجامعات السعودية، وهدمت أهم عناصر النجاح وهي الرغبة وعامل الزمن والبيئة الجامعية، وحمل الطالب "وحده" كل هذه المسؤوليات، ولم يعد يكفيه أن الموضوع تطور من مجرد مؤشر "فقط مؤشر" للقدرات، حتى وصل إلى حكم قاطع وسيف بتار على رقاب الأبناء، وحتى أصبح الطلاب يئنون من الثانوية ومعدلها التراكمي لسنتين، ويتحملون مسؤوليات كل هذه السنوات "وحدهم" وبكل أخطاء التعليم، لتضيع جميعها مع أول اختبار للقدرات والتحصيل، من يتجاوزها تأتيه بعدها طامة السنة التحضرية وسنوات لا معنى لها سوى اختبارات، بينما العلم "كعلم" لم يزل بعيدا عنهم، وكأن كل ما سبق لا يقيس سوى القدرة على الصبر والدخول إلى سنة تحضيرية لا تقودهم إلى أي شيء، بل حتى إن بعض الجامعات لم يعد يكفيها كل هذا حتى سنتها التحضيرية، بل يعيد تصنيف الطلاب بمعدلاتهم في التحضيرية مع القياس، وتجبرهم على تخصصات وتمنعهم مما تشاء. كل هذا لم يعد يكفي المركز، بل سيتجاوزه اليوم ليدعي قدرته على الحد من رسوب الطلاب في الجامعة! والحقيقة أنني أمام هذه النتائج كلها أضع جانبا كل ما تعلمته في مناهج البحث، وفلسفة البحث العلمي، والشك العلمي، وكل ما قاله أهل الحداثة وما بعد الحداثة، وأسأل المركز أين الدليل؟ أين الدليل الذي لا شك فيه بإسهام المركز في دعم الاقتصاد والناتج المحلي، أين دليلكم على تحسن التعليم العام والجامعي بسبب دوركم؟ أين دليلكم على أن الطلاب نجحوا في الجامعة بسبب اختباراتكم؟ أين الدليل على أن نسب التسرب قلت "جوهريا" بسبب اختبارات القياس؟ كيف تم ربط هذا بهذا؟ وكيف تمت السيطرة على جميع المتغيرات المرتبطة والمتداخلة وعامل الزمن والنضج، وكل تلك العوامل. ولأنني أعرف البحث العلمي جيدا، وأعرف كل القيود المفروضة عليه، وأن لا أحد يستطيع أن يجزم بشيء وخاصة في البحوث الاجتماعية، فإنني أطلب من المركز (فقط) أن يهدأ، وأن يعمل في ظل حدوده كمؤشر، ويترك للمجتمع الحكم والاختيار.
وإذا كنت أرغب في عودة المركز إلى قواعده كمؤشر، فإنني أهيب بالجامعات وهي ربة البحث العلمي أن تتعامل مع الموضوع بطريقة هادئة أيضا، ولا تستغل وجود المركز ليجنبها حرجا، ويرفع عن كاهلها هما، فلم تعد تهتم بالبحث في هذا الموضوع ودراسة معايير القبول التي تتناسب مع كل كلية، ولم يعد همها أن تفهم احتياجات الوطن، وأن تراعي رغبات الطلاب ونضجهم بعد الجامعة، وأن أعضاء هيئة التدريس والمناهج جزء من المشكلة تم غض الطرف عنها منذ جاءنا القياس، وبعد أن تحمل الطالب وحده كل المسؤوليات، وخرج الجميع منها سالمين. فالجامعات التي تتجاهل درجات الطالب في الثانوية "وهي مجرد مؤشر"، وتعتمد بشكل مبالغ فيه على نتائج القياس "وهو مجرد مؤشر أيضا"، قد حملت الطالب وحده "وأكرر وحده بإلحاح" كل المسؤوليات عن أخطاء التعليم وأخطاء المؤشرات "سواء القياس أو الثانوية"، وأخطاء التعليم الجامعي أيضا. لقد تبرأ الجميع من أخطائهم بمجرد ظهور قياس، وتحمل وزرها الطلاب فقط. وعندما أقول تحمل الطالب وحده كل أخطاء المؤشرات، ذلك أنها مؤشرات تعتمد على فروض ليست بالضرورة صحيحة، ومن يقول بصحتها المطلقة يجب أن يعيد النظر في دراسة فلسفة البحث العلمي الراهنة.
ففي التصريح الذي أوردته "الاقتصادية" يدعي المسؤول في مركز قياس "أن مقاييس المركز تعتمد على المنحنى الاعتدالي للأداء"، مشيرا إلى أن المتميزين الذين يحصلون على درجة فوق 82 لا يتجاوزون 5 في المائة من الطلاب والطالبات. من الواضح أن المركز قد وضع فروضه أولا، ثم بنى القياس عليها، وكأنه يجبر مجتمع الطلاب على أن ينحو المنحى الطبيعي في النتائج، المنحنى الطبيعي الذي اختاره هو ليمثل المجتمع السعودي وطلابه، وليس المنحنى الطبيعي الذي يعكس هذا المجتمع فعلا. وبماذا يفسر المركز أولئك الطلاب الذين انحرفوا عن المتوسط تحت المنحنى، واتجهت درجاتهم على التطرف إلى اليمين أو اليسار، هل هم جزء من المجتمع المقصود أم أنهم تحت ظل منحنى لمجتمع آخر؟ وأي المجتمعات كان هو مجتمع الطلاب السعوديين الذين يدرسهم الاختبار؟
سأحاول أن أكون واضحا وبسيطا، فالمنحنى الطبيعي أو الاعتدالي، "يختبر" مجتمعا محددا لمعرفته وليس لفرض النتيجة عليه، ولهذا يجب أن يكون 90 في المائة من أفراد المجتمع قريبا من قيمة الوسط، وفي اختبارات القياس "كمثال"، وإذا كان متوسط الدرجات 60، وحتى "نختبر" المجتمع المقصود، فمن المتوقع أن تكون معظم الدرجات بين 80 و40 درجة، وأن يتركز أغلب الطلاب حول 60 ويقلون كلما اتجهنا إلى أعلى أو إلى أسفل، ويبقى طلاب محدودون جدا أعلى من 90 وأقل من 30. ويبقى السؤال الحرج هو كيف نفسر الطلاب الذين ظهرت درجاتهم أعلى من 95؟ أقول: إذا كانت الاختبارات صحيحة وغير متحيزة ولم نتدخل فيها، فإنهم قد "وقد احتمالية" يكونون من مجتمع علمي غير المجتمع الذي ندرسه، وكذلك الحال عند الذين هم أقل من 30. وهذا هو السؤال الخطير في مثل هذه الدراسة والقرارات التي نتخذها عندما نتعامل مع هذه الفئات، هل نحن ندرس المجتمع الصحيح، أم أننا نتعامل مع مجتمع مختلف؟ ذلك أن المجتمعات تتداخل في أطراف المنحنيات الطبيعية. إذن، يجب علينا أن "نختبر" المجتمع دون تحيز وبتجرد تام حتى نفهم سلوكه وليس لنفرض عليه النتائج، ذلك إن فرضنا النتائج فإننا نفرض على المجتمع سلوكا غيره وغير ما هو عليه فعلا، وإن الأحكام الصادرة والنتائج تمثل رأينا لما يجب أن يكون عليه وليس المجتمع نفسه. وهذه خطرة جدا في البحث العلمي وفي أي مؤشر. عندما يقول المسؤول إنه لا بد أن تكون نتائج الطلاب تمثل المنحنى الطبيعي، فإن "لا بد" هذه تقلقني، وخاصة أن الاختبار يقيس قدرات الطلاب الذين تعلموا في التعليم العام، فكيف تختلف نتائجهم بين الثانوية والقياس، إلا إذا كان القياس يختبر شيئا لم يتلق الطلاب مهارات بشأنه؟ وإذا كانت هذه هي المسألة، فلماذا يكون الطالب مذنبا في أنه لم يتلق مهارات تساعده على تجاوز قياس؟ ولماذا يتحمل وحده تبعة كل هذا؟ وإذا كان المركز يقول إن المجتمع سيتعلم مع مرور الزمن، فمن لهذه الأجيال التي أضعتم طموحها على أساس منحنى التعلم عند المجتمع.