في شارع المتنبي العريق .. أوراق الكتب المتناثرة تختلط بالدماء والجثث المتفحمة
اختلطت أوراق الكتب المتناثرة بالدماء والجثث المتفحمة على جانبي شارع المتنبي العريق في قلب بغداد الذي استهدف الإثنين بانفجار سيارة مفخخة أوقع 30 قتيلا و65 جريحا.
وقال محمد سلمان شقيق صاحب مكتبة عدنان الشهيرة "بحثت عن أخي في ثلاثة مستشفيات وما زلت أجهل مصيره"، مضيفا "المشكلة الكبيرة أن جميع الجثث عبارة عن قطع سوداء يصعب التعرف عليها؛ بسبب الحروق التي تعرضت لها".
وقال نعيم الشطري، مسؤول مزاد الكتب في سوق الجمعة إن "هذا العمل جرى فقط في زمن هولاكو، واليوم يحدث مجددا من قبل المجرمين القتلة الذين استرخصوا حياة الأبرياء".
وأضاف الشطري الستيني وهو يبكي أن "قتل الكتاب أخطر من قتل الإنسان؛ لأن الإنسان له عمر، أما الكتاب فيبقى خالدا وقد حرقوه"، مؤكدا أن "الإرهابيين يحاولون قتل المعرفة في هذا البلد وهم يقتلون الطلبة في الجامعات واليوم يقتلون الكتاب في أعرق شوارع بغداد التاريخية".
وروى مراسل "فرانس برس"، الذي وصل إلى مكان الانفجار أن أوراق الكتب المتناثرة اختلطت بالدماء والجثث المتفحمة على جانبي الشارع، مشيرا إلى أن النيران لا تزال تلتهم المكتبات التاريخية التي يشتهر بها شارع المتنبي. وأضاف أن "الانفجار وقع بالقرب من جامع الحيدر خانة في وقت يشهد فيه هذا الشارع ازدحاما شديدا".
ويشهد شارع المتنبي طيلة أيام الأسبوع، ما عدا الجمعة بسبب حظر التجول المفروض في هذا اليوم، حركة نشطة من رواده الصحافيين والمثقفين الذين يجدون ضالتهم في البحث عن الكتب والمصادر.
وقد وقع الانفجار على مقربة من التجمع الثقافي العراقي وهو عبارة عن قاعة يتجمع فيها المثقفون والأدباء، أُنشىء نهاية عام 2003 وأصبح ملتقى للكتاب والأدباء.
وقال حجي علي صاحب مقهى الشابندر؛ وهو ملتقى الشعراء والأدباء والصحافيين "هذه كارثة إنسانية". وأضاف حجي الذي وقف أمام مقهاه الذي تحطم زجاجه؛ بسبب قوة الانفجار إن "هذا المكان معرفي بعيد عن العنف واليوم حولوه إلى هشيم وحطام".
وتابع "لطالما كان هذا المكان يقود حملة توعية ضد العنف، والمفروض أن
يكون خارج دائرة الصراع، والكثير من العرب والأجانب من أصدقائنا مازالوا يزورونا هنا".
وقال محمد حميد صاحب إحدى المكتبات التاريخية القديمة "لقد احترقت مكتبتي، التي تضم موسوعات وكتبا تاريخية نادرة ودينية مهمة جدا غير موجودة إلا في بغداد"، وراح يبكي وهو يردد "لا حول ولا قوة إلا بالله". مضيفا " إن هذه الكتب تعتبر مصادر بحث علمية وأدبية للكثير من طلبة الدراسات العليا".
وقال الصحافي جمال كريم الذي يعمل في قسم ثقافي في إحدى الصحف المحلية وهو يبحث عن أصدقائه "الجميع لم يرد على مكالماتي، مما زاد من مخاوفي على حياتهم"، مضيفا أن "المجرمين استغلوا هذا الثغرة في الشارع الذي يبدو أنه خارج الخطة الأمنية".
وكان هذا الشارع الذي يعود إلى أواخر العصر العباسي، يعرف أولا باسم "درب زاخا" وقد اشتهر منذ ذلك الحين بازدهار مكتباته واحتضن اعرق المؤسسات الثقافية، منها مدرسة الأمير سعادة الرسائلي ورباط أرجوان (تكية دينية).
وقد أُطلق عليه اسم المتنبي في 1932 في عهد الملك فيصل الأول تيمنا بشاعر الحكمة والشجاعة أبو الطيب المتنبي. وكان يعرف أيضا باسم "شارع الاكمك خانة"؛ أي المخبز العسكري.
وكان من أشهر رواد هذا الشارع المستشرقان الفرنسيان لوي ماسينيون (1883-1962) وجاك بيرك (1910-1995) والأديب المصري زكي مبارك (1891-1952)، الذي كان يسكن في 1938 في منطقة الحيدرخانة القريبة من الشارع والشاعر السوداني محمد الفيتوري.
ومن الشعراء العراقيين الذين كانوا من رواد شارع المتنبي محمد مهدي الجواهري (1899-1997)، بدر شاكر السياب (1926-1964)، وعبد الوهاب البياتي (1926-1999).
وقبل 15 عاما، وفي ظل الحظر الدولي الذي فرض على العراق وأفقر أهله، تحول هذا الشارع إلى "بورصة ثقافية" تنظم كل جمعة وتعرض خلالها أشهر الكتب والمصادر وتنتعش فيه مكتبات الرصيف الذي يفترش أصحابها جنبات الشارع طوال ساعات النهار.
وإلى صفته "الاقتصادية" هذه، كان شارع المتبني يشكل ملتقى العديد من الأدباء والمثقفين العراقيين من باقي المحافظات الذين كانوا يزورونه كل يوم جمعة ويلتقون زملاءهم في بغداد. لكن حظر التجول منعهم من ذلك.
وشهد هذا الشارع قبل ثلاثة اشهر عملية إحراق مقصودة للكتب والمؤلفات قام بها أصحاب المكتبات وباعة الأرصفة احتجاجا على فرض حظر التجول في يوم الجمعة.
وأطلق المحتجون عبارة "حرائق المتنبي" على تجمعهم الاحتجاجي مطالبين الحكومة العراقية والمسؤولين برفع حظر التجول المفروض على العاصمة كل يوم جمعة، والذي تسبب في شل الحياة الثقافية التي كان يشهدها الشارع في يوم العطلة الأسبوعية.