شرق الوادي: رحلة البحث عن الذات بين التاريخ والأسطورة
في إطار النفود، وقراها البدوية المترامية، يعرض الكاتب تاريخ المنطقة، متمثلا في شخصية جابر السدرة، البطل الذي تنقل في شرق الدنيا وغربها بحثا عن سميح الذاهل، فمن يمثل سميح الذاهل يا ترى؟ أهو الذات؟ أم الحقيقة؟ أم الوجود؟ أم أنه مزيج من الثلاثة، التي بدأ يعيها جابر ويتساءل عنها في سن الإدراك، في فتوته المبكرة؟
إذا كانت الأسطورة نمطا لفهم الوجود وتحققه، فإن الكاتب تركي الحمد يجعل منها بالإضافة إلى ما سبق، واسطة إلى الوجود، عبر الشخصيتين المحوريتين في روايته "شرق الوادي"، سميح الذاهل، وجابر السدرة. فجابر السدرة هو شاب بدأ يتساءل عن ذاته ووجوده، في الوقت الذي اختفى فيه ابن قريته (سميح الذاهل). وهكذا اقترن سميح الذاهل بذات جابر التي أخذت تتوه وسط متغيرات التاريخ المتسارعة، وانتقال البلاد من مرحلة إلى مرحلة حضارية مختلفة. أخذ جابر يبحث عن سميح متنقلا في رحلات عديدة، يجرب فيها أشكالا من الوجود، يحقق فيها ذاته، يقوده سميح الذي لا يكبر، عبر حضور أسطوري، يتمثل فيه سميح هيئة الرسل والأولياء، ويخاطب جابر بجمل مبهمة تلخص مفاهيم مطلقة للوجود.
في المنطقة الشرقية وفي فترة عمل جابر في أرامكو، تعيش البلاد مرحلة قلقة، تتمثل في حركات عمالية، يقوم بها عمال شركة أرامكو من السعوديين، وفي هذه المرحلة التي تتطلب منه تحديد موقعه واتخاذ موقف، يهرب جابر وينعزل عن الحدث، وفي إحدى مرات هروبه لخلوة على سفح جبل، يأتيه سميح، ويقول له: "يا جابر، هل يخاف أحد من نفسه؟"، وهكذا يكاد يرتبط ظهور سميح الذاهل بحالات عجز جابر عن مواجهة الواقع، وكأن سميح هو ذات جابر التي يهرب منها واقعا ليلتقيها خيالا.
هل تقرر إذن أن سميح مجرد وهم من أوهام جابر؟ هذا ما يكرره جابر ويتساءل عنه، لكنه يعود فيقرر أنه ما من فرق بين الوهم والواقع، أمام فيصل الذاكرة، فكل ما تختزنه الذاكرة حقيقة، أيا كان اسمها وشكل تحققها، وكأن جابر بهذا يشير إلى عمل الخيال في الوجود، وكون الوعي هو معيار الوجود، وهذا ما يجعل من الحقيقة أمرا نسبيا، ذاتي أكثر من كونه موضوعيا، فالحقيقة تنبع من وعينا وإدراكنا كما يقول سميح لجابر، "نحن نرى ما نريد أن نرى".
وحقيقة الوجود كما هو وجود الحقيقة عبر مسبار الذات، أمر لا يمكن خوض غماره إلا بعون كل ملكات الإدراك ومنها الخيال، وهذا ما يفسر حضور الأسطورة (جلجامش مثلا) في الرواية، والأسطورة تحضر في الرواية في اقتباسات كما تحضر كحافز واطار للحكاية، ففي اطار البحث عن سميح (وهي أسطورة كما يتقرر في البدء أو سبحانية) تدور الحكاية، ويتحرك البطل. وجزء من الأسطورية، الجانب الرمزي كما يتمثل في التسمية للأشياء والأماكن والأشخاص، رفيع، وعايش، خب السماوات، خب الحلال وخب الحرام، خب البدايات وخب النهايات، الذاهل.
أسطورة سميح الذاهل تتخذ في الرواية دور الوسيط بين الماضي والمستقبل، وهذا هو دور الأسطورة كما يقول ريكور :"تؤدي الأسطورة وظيفة تفاعل ابداعي بين دعاوى التراث واليوتوبيا" ص101، "يجب ان نمنع التوتر بين اليوتوبيا والتراث عن أن يتحول إلى انشقاق مطلق" ص99 وهذه أزمة الحداثة كما يقول ريكور، وهي تعال يؤول التراث بصوت واحد مونولوجي يزعم امتلاك الحقيقة وكونها في المستقبل، بينما ينبغي أن يقرا التراث في شكل ديالوج غني، يجعل من التوتر تفاعلا وتحويلا للماضي، إحياء لممكنات كانت معطلة في الماضي. معاينة التراث تعني أيضا معاينة الوعي.
التاريخ والتراث قد يوظفان أيديولوجيا، ويتم تزييفهما لصالح أيديولوجيات مسيطرة، ولهذا يرفض سميح الذاهل حضور الأيديولوجيا، عبر سلوكه الرمزي في القدس، حيث يجمع بين المقدسات بشكل يلغي خصوصية كل منها. والحقيقة التاريخية والحقيقة الأسطورية، تتجاوران وتتضافران في الرواية، وكما يتجاور الواقع والخيال، يأتي الفكر الأسطوري جنبا الى جنب مع الفكر التاريخي، ليحملا الحكاية. والتاريخية في شرق الوادي لا تنبع من كونها تحكي تاريخا حقيقيا فحسب، بل كونها تتوسل ببنية تاريخية، حيث السرد يتكئ على وثيقة تاريخية يفتتح بها ويختتم، كما أن فكرة الوثائقية تتخلل السرد فتأتي في شكل وصية مثلا، كوصية أبي عثمان لجابر، وأيضا افتتاح كل قسم باقتباسات تاريخية موثقة، ويتمثل الجانب التاريخي ايضا في تكوين شخصيات الرواية من أجيال متتابعة، لكن الفكر الأسطوري يتبادل التأطير مع الفكر التاريخي، حيث تدور القصة في إطار بحث جابر عن سميح، في الوقت الذي يبحث فيه جابر عن سميح في إطار رحلاته التي تمثل تاريخ المنطقة، وانتقالها من مرحلة البداوة إلى الانفتاح المتدرج على الآخر، إلى الامتزاج بالآخر.
الوجود بحسب ريكور لا يمكن أن يتحقق من دون التقاطع مع الآخر، فالأشياء تتحدد باختلافها عن غيرها، وبضدها تتميز الأشياء كما يقول الشاعر. والآخر في شرق الوادي ليس مجرد شخصيات مسطحة أو ثانوية تملأ فضاء السرد، إنما محور أساس، فعبر الآخر يتحقق الوجود باتجاه الاكتمال، وعبره تتحقق وجوه الحقيقة المطلقة، التي لا لون لها ولا جنس، والحقيقة /الوجود /الذات، هي ركيزة الرواية وضفيرتها الأساس. هكذا كان جابر يبحث عن ذاته عبر استغراقه في مجتمعات مختلفة، وسميح كان بمثابة دافع وقائد لجابر، يدفعه للرحلة في أماكن مختلفة يلتقي فيها بالآخر، ويندمج فيه بشتى الطرق المتاحة، في أرامكو استطاع أن يكون صداقات مع الشيعة والأجانب، في بيئة عمل، وفي الشام استطاع أن يتزوج وينجب ويعمل بالتجارة، وفي أمريكا اندمج في المجتمع الأمريكي، وتزوج من مهاجرة لبنانية مسيحية.
وكما نلاحظ، فإن أهداف رحلة جابر باتجاه تحقيق ذاته، والبحث عن الحقيقة، تنمو بقدر نمو احتكاكه بالآخر، فهي تبدأ باحتكاكه بأبي عثمان، وتتطور إلى اندماجه في مجتمع بلاد الشام، ثم تقترب من ذروتها أثناء عمله في أرامكو، حيث يحتك بآخر يغايره لا في الجنس فحسب، بل في المعتقد، فهو يختلط هناك بالشيعة، وبالمسيحيين، في بيئة عملية يختفي فيها التمايز الديني. وفي سفره للدراسة في أمريكا يتزوج جابر من مهاجرة لبنانية، تمثل بذاتها شكلا من الاندماج في الآخر، وباقترانه بها يكاد يكتمل تحقق وجود جابر، عبر اكتمال اندماجه في الآخر، لولا أنه يتم اختطاف سميح، وخطف سميح في هذه المرحلة دليل على انقطاع مرحلة معينة من التحقق الوجودي للبطل / الوطن، هي المرحلة التي يفقد فيها جابر ذاته، ربما بسبب كونه خارجا على نسق المجتمع، ومرفوضا منه. وهو يمثل جيلا اندمج في ثقافة الغرب وتمثلها بحيث انقطع عن مجتمعه، وبالتالي انقطع عن تحقق ذاته، هذه الذات التي لا يمكن اكتمال وجودها إلا باتصال لحظات الزمن الثلاث : الماضي والحاضر والمستقبل، فأي انقطاع في هذه السيرورة يمثل توقفا في سيرورة الوجود، وهذه خطيئة المجتمع في نظر جابر وعلى الجيل القادم ان يصححها، وينقذ هذا الوجود/ الذات المخطوفة بالوصل بين الماضي والمستقبل عبر الحاضر. عودة التراث ليكتمل تحققه في المستقبل كما يرى ريكور ( الوجود والزمان والسرد، ص101)، وهذا هو دور سميح الصغير، ابن جابر من المهاجرة اللبنانية، الذي يمثل امتدادا لسميح الذاهل، كما لو كان مرحلة جديدة من الحقيقة والوجود، منوط بها إنقاذ الوجود المتعثر، الذي تم اختطافه، والذي سينقذ سميح الكبير / الذات التي يراد حبسها في الماضي منقطعة عن سيرورة الوجود في الزمن المستمر.
ماذا تريد الرواية أن تقول لنا عن التاريخ وعن الحقيقة؟ التاريخ هو تحول وليس ثباتا وجمود ا، والتاريخ سيرورة وليس اكتمالا، والتاريخ امتداد وليس انكماشا على النفس. أما الحقيقة فمطلقة، ونسبية، تظهر لنا حين نريد لها أن تظهر، ونجدها حيث نحتاج إليها، حيث لا يحددها المال ولا الجنس ولا المعتقد ولا العرق. الحقيقة / الوجود / الذات، تحقق الوجود عبر تحقق الذات، وحقيقة الوجود عبر وجود الحقيقة، هذا ما يمثله سميح الذاهل في حياة جابر السدرة، ويبدو أن الحقيقة التي تقررها الرواية عبر جابر، هي العالمية، كمفهوم تذوب فيه الفوارق اللغوية والدينية والعرقية، فسميح الذي كان يتنقل في القدس بين الأقصى وكنيسة القيامة وحائط المبكى، كان لا يكبر أبدا، وهكذا هي الحقيقة المطلقة.
"اقتربت الساعة وحان الفرج"، عبارة يكررها سميح أكثر من مرة، وينطق بها رسوله إلى جابر في بلاد الغرب، وفيها يقرن الفرج بقيام الساعة، ولعل هذا جزء من حقيقة وجودية يشرحها هايدجر في كتابه الزمان والوجود، بكون وجود الإنسان هو وجود باتجاه الموت، أي باتجاه النهاية، فمأساوية الوجود تتمثل في أن الاكتمال يقترن بالنهاية، فهو وجود مرهون بالمستقبل وممكناته. وهذه العبارة تأتي في مرحلة من رحلات جابر، فيها يمتزج بالثقافة الغربية، ويحقق كل المقولات التي تحدث بها سميح عن الحقيقة الوجودية المطلقة، فيتزوج غريس اللبنانية المزروعة في تربة أمريكية، على الطريقة الإسلامية، لكنه يوافق أن يتزوجها وفق طقوس مسيحية، ويعرض ساخرا عليها أن يتزوجا أمام حاخام يهودي أيضا. في هذه المرحلة حيث يعلق جابر الأمل على سميح الصغير أن ينقذ سميح الذاهل، يتبدى الفرج قريبا، حيث ينتظر التحقق الكامل للحقيقة على يد أجيال قادمة.