نظريات تربط السعادة بفصيلة الإنسان الاقتصادية
أصبح البحث في السعادة نغمة سائدة في هذه الأيام، فالبحث في ماهية السعادة، وفي ما يجعلنا نشعر بالسعادة لم يعد بعد الآن حكرا على علماء النفس والفلاسفة. إذ منذ أن صار بوسع بحوث الدماغ أن تحدد ما إذا كان للمرء مشاعر إيجابية أم مشاعر سلبية أصبح الحظ موضوعا للبحوث التجريبية.
وهذه المقارنة التجريبية بالذات هي التي جعلت هذا الموضوع محط اهتمام الاقتصاديين أيضا. فهم يعتقدون أن بالإمكان قياس الحظ موضوعيا من زاوية أخرى وذلك بالاستفسار من الأشخاص عما يحسون به من مشاعر. وبعد ذلك يجري تجميع النتائج ومقارنتها بعضها مع بعض، وينتج عن ذلك مثلا الاستنتاج أن الأمريكيين والأستراليين أكثر سعادة من الأوروبيين. وعند أخذ ظروف معيشية معينة للمستفتين بعين الاعتبار يمكن الوصول إلى معلومات إضافية، منها مثلا أن المزيد من الأموال لا يجعل المرء بالضرورة أكثر سعادة، أو أن الكثير من الناس يشتغلون أكثر مما هو ضروري لسعادتهم.
ومن الجدير بالذكر أن لشعبية البحوث في السعادة أسبابا كثيرة. فالقناعة بأن السعادة تعني ما هو أكثر من توافر المال هو أمر يصعب تفنيده. وعلى الرغم من ابتذال هذه البحوث إلا أنها تشكل تحديا لفصيلة الإنسان الاقتصادي الذي يسعى دائما، كما هو معروف، لتعظيم المنافع التي يحصل عليها. ومن المعروف أن المعيار لهذه المنافع هو حجم الدخل القابل للتصرف أو القوة الشرائية. وفي الحقيقة إن الاقتصاد التقليدي لا يقدم ما يتجاوز هذه المؤشرات القابلة للقياس بالنقود. وفي الوقت نفسه فإن من المتفق عليه أن الاقتصاد وحده لا يعطي تصورا كاملا للسلوك البشري وهو الأمر الذي اقتضى استكمال الصورة ببعض المعار ف الإضافية التي توفرها علوم أخرى كعلم النفس مثلا.
ولكن هل يمكن اعتبار بحوث السعادة بديلا كافيا؟ وهل يمكن أن نتعلم منها أكثر من نصيحة أرسطو بأن من يحس السعادة قبل غيره هو الذي يبحث في الحياة عما هو "وسطي وصائب"؟ ومن اللافت أن الشكوك تبدأ في رفع رؤوسها عند مسائل التعريف. ولا شك أن تعريف الاقتصادي والباحث في شؤون السعادة البريطاني ريتشارد لايار هو تعريف خال من كل مضمون فهو القائل: "السعادة هي عندما نشعر بالرضا، والبؤس هو عندما تكون مشاعرنا سيئة". ومن يحاول أن يعطي مضمونا لهذه الجملة فإنه سرعان ما يصطدم بحدود المعارف النظرية. فالسعادة لا يمكن تعريفها موضوعيا بالمقارنة مع الأحاسيس الذاتية.
إن السعادة والإحساس بالرضا هما مسألتان ذاتيتان إلى أبعد حد. ومن المستحيل إقحام الأفراد وما يحسون به من مشاعر الرضا في سياق مقولب بهدف إجراء مقارنات في السعادة، إذ عندما يقول الشخص (أ) إنه سعيد بينما يقول (ب) إنه غير سعيد فإن هذا لا يعني أن (أ) أكثر سعادة من (ب). ولهذا السبب استنتج مؤسس نظرية "النفعية" جيريمي بينتهام أن من العبث السعي لتحقيق أقصى درجات السعادة لأكبر عدد من الناس.
وقد تبنى مقولات بينتهام أولئك الاقتصاديون المحدثون الذين استخلصوا من بحوث السعادة بعض الاستنتاجات السياسية الجادة. فالمستشار العمالي لسنوات طويلة (لايار)، يرى أن سياسة أية دولة من الدول يجب الحكم عليها على أساس "إلى أي مدى تزيد من سعادة رعاياها وتقلل من معاناتهم". وقد اقترح (لايار) على توني بلير رئيس الوزراء البريطاني "مؤشرا للسعادة" يمكن اعتماده كمحك لأي قانون من القوانين: ففقط ما يؤدي إلى السعادة يمكن تمريره كقانون. أما منافس بلير من حزب المحافظين ديفيد كاميرون فيقول إن على السياسة ألا تسعى بعد الآن لزيادة الناتج المحلي الإجمالي (GDP) وإنما لزيادة الإحساس العام بالرضا (GWB) .
إن هذا ليس مجرد هذر لا معنى له فهو يخفي وراءه صيغة ما من الزعم أن المال لا يحقق السعادة: فالناس في البلدان الصناعية ليسوا الآن أكثر سعادة مما كانوا عليه في الماضي مع أن مستوياتهم المعيشية قد تطورت في هذه الأثناء بصورة ملموسة. ولهذا فإن على السياسة أن تهتم أكثر بتلك الأشياء التي تجعل من بحوث السعادة أداة لتدعيم السعادة. ولما كان العديد من الأشخاص يعملون أكثر مما هو ضروري لسعادتهم، فينبغي فرض ضرائب أعلى على الدخل المتأتي من العمل، وذلك لتحقيق نوع من أنواع التوازن بين أوقات العمل وأوقات الفراغ.
إن الإعلامي السويدي يوهان نوربيرج يسمي العلم الجديد "أبوية السعادة". ومحاججته ضد بعض الباحثين في السعادة ترتكز على ادعائهم أنهم الأكثر معرفة بما ينفع مواطنيهم. ويحاول نوربيرج أيضا أن يبرهن خطل منطلقات لايار التجريبية بتأكيده أن هناك فعلا علاقة إيجابية بين الرفاه الاقتصادي والسعادة.
ومما لا شك فيه أن نوربيرج على صواب في جميع الحالات فهو القائل إن استنتاجات الاقتصاديين من أمثال لايار يمكن أن تكون على جانب كبير من الخطورة من الناحية السياسية، ولا حاجة للتذكير في هذا السياق بما قاله في حينه جورج أورويل. ويمضي نوربيرج إلى القول إن هذه الاستنتاجات تحاول أن تصورهم بأنهم الساعون فعلا لإسعاد شعوبهم. أما أن هذه الاستنتاجات لا تتضمن بالضرورة توصيات بزيادة الضرائب أو التخفيض الإجباري لعدد ساعات العمل فله أسبابه: وهو أن مثل هذه التوصيات لا تسعد المواطنين بطبيعة الحال.