الأعمدة النقدية في استراتيجية البنك المركزي الأوروبي
لدى تأسيسه في حزيران (يونيو) من عام 1998، كان البنك المركزي الأوروبي أمام مهمة إستراتيجية صعبة للغاية. لقد بدا كمؤسسة جديدة بالكامل لتعزيز المصداقية. لقد كانت لكسب ثقة العامة وبالأسواق المالية. وقد تم تعقيد إتمام هذه المهمة بصورة إضافية عن طريق اتحاد الاقتصاد والنقد الأوروبي والنطاق التأسيسي المتغيّر. وفي هذه الحالة، كان الأمر بالنسبة للبنك المركزي الأوروبي حكيماً، باجتذاب المتمرسين من البنوك المركزية الوطنية الناجحة لمنطقة النقد، والعمل على دفعهم للأمام قدر الإمكان. وبهذا تمكّن البنك من ربط نفسه بالإرث القيّم لأنجح البنوك المركزية الأوروبية، ومصداقيتها. وفي الوقت ذاته، كان على السياسة المالية أن تعدّل نفسها بصورة مواتية مع الحقائق الجديدة.
وكان من المهم بصورة خاصة في هذه العلاقة، التصريح عن إستراتيجية البنك للسياسة المالية المُكيفة على الاستقرار في شهر تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1998. والهدف الأول للبنك المركزي الأوروبي، استقرار الأسعار، الشيء الذي تم تعريفه بشكل إحصائي. فقد تم تطوير هيكلة ذات شكل جديد تتميّز بارتكازها على عمودين للتحليل النقدي والاقتصادي. وقد تم توجيه هذه الإستراتيجية، بحيث حملت حسبة عدم الأمان الكبير، الذي واجهه البنك المركزي الأوروبي في عام 1999 مع بدء السياسة المالية الموحّدة. وفي الوقت ذاته، تم ضمان القدر الكبير من المواصلة والاستمرارية المطلوب.
وأشار إطلاق السياسة المالية الموحّدة على أساس هذه الإستراتيجية على أنه ناجح للغاية. والحقيقة هي أنه تم في الدول الأعضاء لمنطقة النقد اليورو، الوصول إلى معدل من الاستقرار، الشيء الذي لم يُشهد من قبل. وبالفعل، بلغ معدل الغلاء في منطقة اليورو إجمالاً على مدار عدة أعوام بصورة طفيفة جداً، ما يزيد على "تعريف البنك المركزي الأوروبي" لاستقرار الأسعار. وإلى حدٍ فقد أدى هذا إلى إحداث صدمة خارجية، مثل ارتفاع سعر النفط العالمي، الشيء الذي لم يكن للتأثير المباشر للبنك المركزي أي أثر عليه. وإجمالاً سجّل معدل التضخّم في منطقة النقد اليورو منذ عام 1999 نحو 2.05 في المائة، وبالتالي أقل بصورة ملموسة من المعدل الذي شهدته ألمانيا في فترات المارك الألماني.
وقد نجح البنك المركزي الأوروبي بالأخص في تثبيت توقعات التضخم طويلة المدى إلى معدل يتفق مع استقرار الأسعار، الذي لم يُشهد من قبل إلا في أنجح الدول. وهذا أحد أكبر الأخطاء المضللة، ولكن أقلها وضوحا. وقد أوفى البنك المركزي الأوروبي بمهمته، وهي ضمان استقرار الأسعار لفترة متوسطة المدى. وبالتالي فهو يخدم مساهمته في النمو الاقتصادي الدائم، وتحقيق المزيد من فرص العمل.
وعلى أية حال، فإنه غالباً ما يُنظر إلى هذه النجاحات الملحوظة على أنها طبيعية. وعلى الرغم من هذا فإن الرضا غير مشهود بعد. وقد أشارت الخبرات عن فترة السبعينيات من القرن الماضي إلى هذا. ومع فقدان السيطرة على التضخم، والتوقعات بالتضخم، يمكن لإعادة تحقيق استقرار الأسعار أن تكون عملية مملة، واجتماعية، ومكلفة اقتصادياً.
وفي المناظرات العامة، والعلمية، في الغالب لا يتم التحدث بصورة شاملة كيف ساهمت الإستراتيجية للسياسة المالية البارزة للبنك المركزي الأوروبي في النجاح الحالي. وإذا ما استنتج المرء من الانتقادات القاسية وحدها، والتي يمارسها جزء من العالم الأكاديمي بحقّ إستراتيجية البنك المركزي الأوروبي، وبهذا يمكن للمرء أن يشير إلى أن البنك المركزي الأوروبي قد أخطأ في مهمته بالكامل. ولكن هل يوجد إثبات أفضل على نجاح الإستراتيجية من محصلاتها الإيجابية المُحققة؟ ويبدو الأمر هنا بكل وضوح، إلى أي مدى تنفصل أجزاء الانتقاد النظري العلمي من ناحية، والنجاحات التجريبية العملية من ناحية أخرى.
وفي مواجهة الانتقادات الموجّهة ضد إستراتيجية البنك المركزي الأوروبي، يدور الأمر حول الشكوك المتعلّقة بالدور المميّز، والذي يتناول حجم المال ضمن مبدأ (العمودين). وبعض النقّاد يجادلون، بأن التحليل النقدي يُفترض أن لا يكون أكثر من عنصر واحد من العناصر المتعددة للتحليل الشامل. والبعض الآخر مقتنعون بأن التغييرات الهيكلية في الأسواق المالية غيّرت دور حجم المال في آلية التحويل التابعة للسياسة المالية، وبالتالي أثرت بصورة سلبية على علاقتها بتطوّر التضخم. وتعبّر مجموعة ثالثة عن الرأي، بأن الثغرات الهيكلية، وعدم الاستقرار في العلاقة التجريبية بين حجم المال، ومعدل الأسعار أدت بألا يكون تطوّر حجم المال ذا ميزة مساعدة بالغة الأهمية ومنطقية أكثر بالنسبة لساسة المال.
ونظراً لمهمة المال كوحدة حسابية، على تطوّر حجم المال أن يكون متكاملا لتحديد معدل الأسعار وبالتالي معدل التضخم أيضاً. أو، بهدف الاستشهاد بكلمة مشهورة لميلتون فريدمان، المتوفى منذ فترة قصيرة، والذي حاز على جائزة نوبل في عام 1976 للعلوم الاقتصادية: "التضخم هو دوماً وبصورة عامة ظاهرة نقدية". إن العلاقة طويلة المدى بين حجم المال ومعدل الأسعار هي من المحتمل أن تكون إحدى أفضل المحصلات الموثوق بها في البحث الاقتصادي على الإطلاق. وأي بنك مركزي يتعهّد بهدف رئيسي، وهو ضمان استقرار الأسعار، بالكاد يمكن أن يسمح بعدم مراقبة تطوّر حجم المال بكامل الوعي والانتباه.
وبحالة من الشك، طرحت التحليلات، والتفسيرات للعلاقة بين حجم المال، ومعدل الأسعار الكثير من المشكلات العملية معها. وقد مرّ البنك المركزي الأوروبي بهذه التجربة أيضاً خلال الأعوام الثمانية الماضية. ولا يمكن لهذه الصعوبات العملية أن تطرح المبادئ الأساسية عن النظرية المالية، وقطاع البنوك المركزية في مساءلات، لأسباب جيدة، وهي أنها موجودة منذ عدة عقود وقرون.
وفي الأدب العلمي الأخير، تكتسب النماذج الاقتصادية، والتي تُدعى (الكينيزية الجديدة – نسبة إلي كينز) ، أهمية متزايدة. وتضع هذه النماذج والأنماط، ضمن نطاق مجرّد ونظري، معدلاً سعري ثابتا، دون أن تعود على حجم المال. ويُجادل، بأنها تقدّم الأسس لإبعاد حجم المال خارج الأطر التحليلية للممارسة السياسية المالية. وأنا لا أعمل على تشطير هذا المبدأ. وجوهرياً تسهّل هذه النماذج دور المال، والنظام المالي إلى حدّ لا يمكن أن تكون معه مقبولة بالنسبة لأصحاب القرارات السياسية المالية. ولهذا لدي شك جذري، فيما إذا كان هذا النموذج، يمكن أن يعرض مساعدة منطقية وعملية للسياسة المالية، حتى عندما يكون من منطلق المبدأ ممتازا وحافلا بالنشاط.
ويؤخذ الأمر بصور أدق، إذا ما تم ضمن هذا النموذج لوجهة التضخم طويلة المدى والجذرية، التأكيد بصورة عملية على هدف التضخم المستهدف من قبل البنك المركزي. وببساطة يُقترح بصورة ضمنية، بأن "هدف التضخم" للبنك المركزي مثبّت بصورة موثوق بها دون التوضيح، لماذا يجب أن تكون هذه الحال، وما هو العمل، بهدف ضمان مثل هذا التثبيت. هل هذه وسيلة منطقية ومقنعة، لتوضيح التضخم؟ إن ما يحتاجه أصحاب القرار في السياسة المالية، لا يتم تقديمه عن طريق هذه النماذج. وكما يُنظر إلى الأمر، فإن هذه النماذج فعلاً ذات استخدام أكاديمي، ولكن عملي ضئيل. وتبعاً لهذا، فأنا مقتنع كما في السابق، بأنه يمكن لحجم المال أن يلعب دوراً جذرياً، ولكن أيضاً يُفترض به أن يلعبه.
وكيف يتم تنظيم إستراتيجية البنك المركزي الأوروبي الآن؟ إنها تقف أمام تدفق مهم للأدب العلمي، لتشكيل سياسة مالية دون العودة إلى حجم المال. ولكنه يشجّع، لأن يعيش التحليل النقدي فترة من النهضة. وبعض المنظمات الدولية الرائدة أعلنت حديثاً عن اهتمامها. وهذا ينطبق أيضاً على البنوك المركزية. ومن بينها يوجد أيضاً تلك التي تتبع ما تُسمى باستراتيجيات ضبط التضخم. وفي نطاق معدلات تضخم عالمية أقل، فإن توقعات التضخم على مدار الأفق الزمني لعام أو عامين، كما هي الحال لدى وضع هدف التضخم، على أنها المصدر الوحيد للمعلومات ليست مناسبة لقرارات السياسة المالية أكثر. وبهدف توسعة أفق التوقعات، تبحث هذه البنوك المركزية عن المؤشرات التجريبية لوُجهة التضخم طويلة المدى. ونقطة ارتكاز منطقية هنا هو تطوّر حجم المال. والدراسات التجريبية، والتي أشارت إلى علاقة بين حجم المال، والتطورات الخاطئة في أسعار الموجودات، أكّدت على فائدة هذا المبدأ النقدي.
ويجد البنك المركزي الأوروبي نفسه في الطليعة من أكثر المهتمين بالتحليل النقدي. وما يؤكّد على هذا أيضاً هو مبدأ السياسة المالية للبنك المركزي الأوروبي والذي لا يمكن أن يكون "قديماً"، بعكس ما تؤكّد بعض الانتقادات. وخلال الأعوام الثمانية الماضية، تطوّرت أطر البنك المركزي الأوروبي للتحليل النقدي، لتعكس هذا المبدأ الجديد. ومنذ البداية، تجنّب البنك المركزي الأوروبي ردود الفعل الآلية لسياسة الفائدة على تطورات إجمالي حجم المال، على سبيل المثال M3، " وهو الصنف من تزويد المال الذي يضم M2 ، وكذلك الإيداعات بعيدة المدى، وصناديق الأسواق المالية التأسيسية، واتفاقيات المدفوعات قصيرة المدى، توازياً مع سيولة كبيرة من أخرى من الموجودات". وهي لا تتبع هدفا نقديا مؤقتا، كما كانت الحال في الماضي مع بنك الاتحاد الألماني. وبدلاً من هذا، يحلل البنك المركزي الأوروبي هامشاً متقلباً وكبيرا للبيانات النقدية. وهذا يصدر عنه معلومات عن تطوّر الأسعار المستقبلية. ويتم أخذ هذه المعلومات بعين الاعتبار بالازدواج مع البيانات، والتي تنبثق عن التحليل الاقتصادي الموازي لها، عند اتخاذ قرارات الفائدة.
وكما تتم الإشارة غالباً، كان على البنك المركزي الأوروبي أن يسيطر على الكثير من التحديات لدى تطوّر مبدئه. وبدا الأمر وكأنه العمل على تطوير نظام إحصائي للبيانات النقدية وتحسينه. وظهرت بعض الصدمات المهمة، مثل التعديل الحاد في أسواق الأسهم في عامي 2000/2001، أو العواقب المالية لهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) في عام 2001، والتوترات السياسية اللاحقة. ويعرض التحليل النقدي للبنك المركزي الأوروبي هذه التحديات. وفي الوقت ذاته، تم تطويره عن طريق تطوير وسائل تحليلية جديدة. ويُقال فعلياً: لقد تحسّن فهمنا للتطورات النقدية. وقد تم ضم هذه التطورات لدى فحص إستراتيجية السياسة المالية للبنك المركزي عن طريق المجلس الاستشاري في البنك، في حسبة شهر أيار (مايو) من عام 2003. وهنا تم التوضيح بصورة خاصة، بأن في جوهر التحليل النقدي، وجهة لوُجهة التضخم متوسطة وبعيدة المدى.
وتؤكّد مبادئ التحليل الجديدة العلاقة بين نمو حجم المال والتضخم، وهي تشير إلى أن مثل هذه العلاقة بالأخص موجودة أيضاً لدى التطورات طويلة المدى والمتواصلة لكلا العاملين السابقين. ونظّمت الدراسات والتحقيقات الأخرى معادلات الطلب على المال الأصلية ضمن أحجام مختلفة من عدم الأمان، بهدف تحسين جودة التحليل النقدي في أزمان عدم الأمان الكبير في الأسواق المالية. وتوازياً مع هذه، تم فحص خصائص مؤشرات حجم المال لتطوّر الأسعار في منطقة اليورو بصورة مفصّلة جداً. والمحصّلة قريبة، بأن خصائص مؤشرات حجم المال، والتي تم تقديرها على أساس البيانات الصادرة عن الفترة ما قبل الاتحاد النقدي، بقيت منذ عام 1999دون تغيّر. وتتم المحاولة إلى حدٍ أبعد، في القضاء على بعض نقاط الضعف للنماذج الكينيزية الجدية، حيث يتم التأكيد على القطاع المالي. وفي غمرة هذا، حظي حجم المال، ومنح القروض في مجريات التحويل السياسي المالي لأول مرة على دور حقيقي في هذه النماذج. وفي النهاية، تم تحليل العلاقة بين تطوّر حجم المال ومنح القروض من ناحية، وكذلك تطوّر الخطأ في أسعار الموجودات من ناحية أخرى. ويُنظر إلى الأمر بصورة تاريخية، تبع فقاعات أسعار الموجودات، والتي توازت مع ارتفاع قوي في حجم المال ومنح القروض، وغالباً "انهيار"، والذي يصل لديه خرق كبير في الإنتاج. وأخذ حجم المال بعين الاعتبار، وإجمالي القروض، يسهم أيضاً في إدراك مثل هذه التطورات في فترة مبكرة.
وكما يُقال، فإن الرأي بأن حجم المال مهم لقرارات السياسة المالية بصورة متزايدة، يشيع أكثر بين البنوك المركزية. وتتم الإشارة إلى الصعوبات أيضاً، والتي تعمل على تداخل التحليل النقدي والاقتصادي في نموذج واحد، أو في أطر تحليلية واحدة. وتُراقب هذه المحاولات من قبل البنك المركزي الأوروبي بدقة أكثر. ولكن حتى عندما تصمد هنا خطى تقدّم، فإنه من وجهة نظري، من غير المحتمل أبداً، إيجاد "نموذج"، والذي يمكنه أن يصوّر الحقيقة المعقّدة بكافة جوانبها المتعلّقة بآلية التحويل النقدي. وبالنسبة للبنك المركزي الأوروبي، فإنه من المنطقي، الثبات بإستراتيجيتها السياسية المالية ذات العمودين،والتي كما في السابق، تمكّن من الإجابة عن أفضل نحو عملي على التحديات السياسية المالية. وتضمن هذه الإستراتيجية، بأن تكون هذه المعلومات متناسبة مع التطوّر النقدي وأن تنساب ضمن أسلوب شفاف في مجريات اتخاذ قرارات السياسة المالية.