وثيقة المدينة التاريخية .. تطرح أول أدبيات الحقوق

وثيقة المدينة التاريخية .. تطرح أول أدبيات الحقوق

قاد بحث ثقافي أجراه أكاديمي سعودي إلى الوصول إلى أول دستور كتب في العهد الإسلامي مع كشفه للوثيقة التاريخية التي قالت مصادر تاريخية إنها كتبت إبان قدوم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، ونظمت الحياة السياسية والاجتماعية بين فئاتها، في حين شكك مثقفون آخرون في أن الوثيقة قد كتبت في العهد النبوي.
وقال الباحث الدكتور بريك أبو مايلة أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية: إن رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ نجَح في إرساء وحدة سياسية عجيبة في ذلك الجو المضطرب في المدينة بين هذه القبائل التي كانت في حاجة ماسّة إلى وحدة سياسية، وكانت هذه الوحدة السياسية أمرًا جديدًا وغريبًا لم يألَفه العرب.
ورد الباحث خلال محاضرة جمعته أخيرا بمثقفي المدينة المنورة في نادي المدينة الأدبي على ما ذهب إليه بعض الباحثين والمؤرخين من أن الوثيقة مزورة وغير صحيحة أو لحقتها الزيادة والنقصان، وقال: الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع أن "وثيقة المدينة" كانت عبارة عن وثيقتين وجمعت في وثيقة واحدة، مشيرا إلى أنه يحتفظ بكامل بنودها التي وضعها النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ.
ورد على المشككين بصحتها بالقول: هناك مستندات شرعية تؤيد تلك الوثيقة، منها ما ورد في الكتب الصحاح (البخاري ومسلم والنسائي)، مؤكدًا أن المُراجِع لنصوص الوثيقة يجد تشابهًا كبيرًا في بنودها وطرق معالجة النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ في حل القضايا الاجتماعية بين أصحابه بما يؤكد ولا يدع مجالا للشك أنها صادرة عنه عليه الصلاة والسلام.
وقام الباحث أبو مايلة باستعراض بنود الوثيقة التاريخية التي ترسخ لمفهوم الحرية الثقافية، مشيرًا إلى أنها وصلت إلينا من ثقات عدول بأسلوب التواتر، وهو أحد أقوى أساليب النقل العلمي والثقافي في تلك الفترة، الذي يعتمد نقل العلم من مجموعة كبيرة من الثقات إلى طلبة ينقلونه إلى من بعدهم.
في المقابل، تساءل الدكتور هاني فقيه مدير المحاضرة والمشرف على صالون الوادي المبارك في النادي الأدبي عن إهمال أهل العلم والمؤلفين في السياسة الشرعية مثل الماوردي في كتابه الشهير «الأحكام السلطانية» وابن تيمية في مؤلفه «السياسة الشرعية»، واللذين يعدان مرجعًا أساسيا في السياسة الشرعية الإسلامية، حيث لم يشيرا لهذه الوثيقة، ولم يأخذا شيئًا منها على الرغم من ثبوتها بالأسانيد الشرعية.
ورغم ذلك شدد أبو مايلة وهو يستعرض ورقته التي ألقاها بعنوان «وثيقة المدينة النبوية.. مفخرة الحضارة الإسلامية» بأن الوثيقة شكلت أول دستور في تاريخ البشرية، وأرست حقوق الإنسان، واعترفت بالأقليات داخل المجتمعات بمختلف أطيافهم وأعراقهم من خلال معاهدات واتفاقات أقرها سكان المدينة بمختلف أعراقهم.
ويشير مثقفون إلى آراء عدة كتبها مستشرقون ومهتمون بدراسة التاريخ والسير تتلخص في أن الوثيقة التاريخية تعد أول دستور اجتماعي يحفظ حقوق المواطنة في الدولة المدنية وأحد مفاخر الحضارة والثقافة الإسلامية.
وأشار الباحث أبو مايلة إلى أن «وثيقة المدينة» التي كتبها النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ إبان قدومه للمدينة المنورة تعد مصدرا ثقافيا مهما في تاريخ العلاقات والتشابكات بين الفئات المختلفة يمكن التعويل عليها لحل مشكلات العالم السياسية والاجتماعية المستعصية كونها تعد منهجا واضحا لكيفية التعامل والتوافق والتكامل بين أتباع الثقافات المختلفة.
وأوضح أبو مايلة أن تعدد مسميات "الوثيقة" بين الباحثين والمؤرخين يُؤكد صحتها، وأنها صادرة عن النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ ومن بين تلك المسميات "الكتاب"، و"الصحيفة"، "والمعاهدة"، "ووثيقة المدينة النبوية"، في حين ذهب الباحثون المعاصرون من المسلمين والمستشرقين إلى تسميتها "الوثيقة الدستورية".
ويعود تاريخ المعاهدة إلى العام الأول من الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة عندما قدم النبي من مكة للمدينة وبايعتّه قبائل العرب في المدينة، فضم كل قبيلة بأحلافها، وكتب وثيقة وفاق للتعايش السلمي فيما بينهم، طرفها الأول المهاجرون، والثاني الأنصار، ويشمل الأوس والخزرج، وطرفها الثالث اليهود من أهل المدينة المنورة (يثرب سابقا)، فكانت بمثابة أول دستور ينظم الحياة في تلك البقعة من العالم.
وعن دواعي كتابة الوثيقة، قال أبو مايلة: إن الوحدة السياسية لم تكن متحقّقة في المدينة في تلك الحقبة، وذلك لوجود نزاع مستمر وحروب بين القبائل الموجودة فيها كقبيلتي الأوس والخزرج العربيتين، وكذلك القبائل اليهودية، وهي من أسباب تقديم النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ لكتابة «وثيقة المدينة» الذي يعد من أوائل أعماله في المدينة.
ونقل أبو مايلة عن أحد المستشرقين قوله إن رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ نجَح في إرساء وحدة سياسية عجيبة في ذلك الجو المضطرب في المدينة بين هذه القبائل التي كانت في حاجة ماسّة إلى وحدة سياسية، وكانت هذه الوحدة السياسية أمرًا جديدًا وغريبًا لم يألَفه العرب.
وفي الوقت الذي شكك فيه الشاعر والمحامي سعود الحجيلي بعض ما جاءت به أخبار الوثيقة، أيد الدكتور عبد الله عسيلان رئيس النادي الأدبي ما ذهب إليه الباحث أبو مايلة من صحة الوثيقة عن النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ، وأيّد الباحث في تاريخ المدينة المنورة الدكتور تنيضب الفايدي صحة الوثيقة التاريخية، وأن كاتب بنودها هو الرسول عليه الصلاة والسلام.
وينظر بعض المثقفين إلى الوثيقة باعتبارها إحدى أبرز المعاهدات التاريخية التي أنصفت كافة الفئات، ويقول الدكتور بريك أبو مايلة إن الوثيقة ساهمت في حياة كريمة لليهود الذين عاشوا في ظلها قبل أن ينكث بعضهم بوعده ويحارب بعضهم الآخر رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ، مشيرا إلى أن اليهود كانوا بدورهم منقسمين في المدينة المنورة إلى ثلاثة أصناف هم بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع، حيث كان بنو النضير يفرضون دية الرجل برجلين ممن سواهما على اعتبار صلتهما القريبة بالنبي موسى عليه السلام.
ويقول المدون إبراهيم السويدي إن هذه الوثيقة التي يصفها بأعظم الدساتير التي عرفها العالم، مشيرا إلى فقرات منها تبدأ بهذه القطعة الأدبية النصية: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس".
ويضيف منتقلا إلى محور آخر في الوثيقة: "المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو عوف وساعدة والحارث وبنو جشم والنجار وبنو عمرو بن عوف وبنو النبيت وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين".
ويبدو واضحا أن طرح الوثيقة التاريخية للنقاش حرك الماء الراكد في الساحة الثقافية في موضوع أدبيات سن القوانين والتشريعات والحقوق بين المواطنين والفئات المختلفة.

الأكثر قراءة