اليابانيون يشكون من ندرة الأسماك
اليابانيون يشكون من ندرة الأسماك
هذا المكان ليس للكسالى, فهنا لا مفر من الصراخ, وهناك عند المنعطف تتحرك العربات ذات العجلات الثلاث وبكثير من الضجيج يجري إلقاء الصناديق فوق بعضها البعض, وفي كل مكان تهدر وحدات التبريد بينما يزعق أحدهم, ويصيح آخر, ويعلو صوت ثالث بالشتائم. والأسماك وحدها هي التي تلوذ بالصمت.
الساعة الآن هي الخامسة والنصف فجرا. فمرحبا بكم في (تسيكوجي) كبرى أسواق السمك في العالم. إن حيا كاملا من المدينة وسط طوكيو يعيش على حصاد البحر ولا شيء غير ذلك. فهنا الأصداف الصغيرة الحجم, وقنافذ البحر, وبلح البحر وأيضا الأخطبوط. ولا حاجة للحديث عن أسماك الماكاريل الممددة على الثلج, وأسماك السلمون ومن الجدير بالذكر أن ما لا يقل عن 2400 طن من الأسماك يجري تصريفها يوميا في تسوكيجي.
وتغذي هذه الأنشطة أنشطة غيرها, فعلى أبسطة صغيرة لا تحصى ولا تعد يمكن الحصول على كل ما له علاقة بصيد الأسماك وبإعداد وتقديم وجبات من الحيوانات المائية وأدوات الصيد والموازين المصنوعة من أرقى أنواع الفولاذ إلى تلك الصواني الصغيرة التي تصطف تحت غطائها الزجاجي حبات السوشي الشهية التي لا تلبث أن تجد طريقها إلى مكاتب المدينة التي تعج بالملايين من البشر.
وللعلم فإن السوشي ليس هو فقط الوجبة الغذائية المفضلة لليابانيين, وإنما هو أيضا الغذاء الشائع هذه الأيام, ومن ثم فهو مثال صغير على المطبخ الذي دخل دائرة العولمة ليس فقط في أوروبا ‘ ففي الولايات المتحدة وحدها تضاعف عدد المطاعم اليابانية خلال عشر سنوات. ومن المعروف أن طعام السوشي يحتاج إلى أسماك التونة, شأنه في ذلك شأن الساشمي. وفي سوق تسوكيجي يستطيع المرء أن يحصل على ما شاء منها.
وتشكل القاعتان المبردتان مركز السوق, حيث ينتصب السيد تاكيدا بلباس العمل الأزرق اللون على منصة خشبية متواضعة وهو يصيح بين الحين والآخر, محاطا بزملاء له من سبع شركات للمزاد العلني, وهو يقود هنا في كل صباح ما بين الساعة الخامسة والربع والسادسة والنصف عمليات المزايدة على أسماك التونة. وحوله يقف التجار على شكل دائرة, أياديهم في جيوبهم, وعلى رؤوسهم أغطية رأس ويبدون في حالة استرخاء تام. وبنغمات قصيرة وسريعة يلقي تاكيدا بأرقامه على الحضور من المشترين المرخصين لحساب محلات تجارية كبرى ولمصانع المواد الغذائية, وكلما زاد في الأسعار كلما زاد في تأرجحه على ركبتيه. ومن الجدير بالذكر أن سمكة التونة التي تزن أربعين كيلوجراما, وهي التي يكثر الطلب عليها في السوق, تكلف حاليا حوالي 2500 دولار.
إن إجمالي الكميات من أسماك التونة التي تباع في اليابان يبلغ نحو 580 ألف طن, وهي كمية كبيرة على الرغم من أن الأسماك تزداد أسعارها باستمرار.ومن المعروف أن البحر أصبح يبخل بالأسماك, مع أن الحكومة اليابانية مطالبة من خلال عضويتها في اللجنة الدولية , من الناحية النظرية على الأقل, بالحفاظ على الثروة البحرية من أسماك التونة وعدم السماح بالصيد الجائر. أما في الواقع فإن نظام الحصص الذي اتفق عليه عام 1993 يجري تجاهله بصورة مستمرة, وتعتبر الجماعات الضاغطة العاملة لحساب صناعة صيد الأسماك جماعة فعالة جدا, وهي تستخدم باستمرار الحجة نفسها وهي أنه: إذا لم نقم نحن أنفسنا بالصيد, فسيقوم غيرنا به.
وقبل ثلاثة أسابيع, وأثناء الاجتماع السنوي للجنة الدولية, تم تحديد حصة اليابان من صيد أسماك التونة الزرقاء الزعانف, وهي المفضلة بسبب لحمها المائل للون الأحمر, بثلاثة آلاف طن, وهو رقم مثير للضحك, خصوصا أنه سيبقى نافذ المفعول حتى عام 2012, مما يعني تقليص حصة اليابان إلى النصف. أما أستراليا, بالمقابل, وهي المزود الرئيسي لليابان بأسماك التونة, فقد تمكنت من المحافظة على حصتها دونما نقصان. وهو ما يمثل انتصارا للوزير المعني حيث إن البلدين يتهمان بعضهما البعض بتجاوز الحدود المسموح بها لكل منهما.
هذا ولم يعد المتوافر من أسماك التونة زرقاء الزعانف يغطي أكثر من 3 في المائة من الكمية المطلوبة, ولهذا يقول أحد التجار " ترتفع الأسعار في السوق ارتفاعا غير عادي ". وقد أصبح سوق تسوكيجي يعتمد عمليا على البضاعة المستوردة, وتجئ أكبر كمية من ميناء لينكولن (Port Lincoln) على بعد سبعة آلاف كيلومتر في الشاطئ الجنوبي لأستراليا حيث توجد أعلى كثافة من أصحاب الملايين في القارة بأسرها.
وأحد هؤلاء الأشخاص الأثرياء هو هاجن ستير, الذي يسميه البعض ملك التونة. وقد جاء هذا الألماني الأصل , الذي يبلغ الخامسة والستين من العمر إلى ميناء لينكولن كعامل على ظهر إحدى السفن, وكان ذلك عام 1961. أما اليوم فهو صاحب شركة البحار الصافية لأسماك التونة وهو بلا منازع أهم التجار الكبار وأكثرهم سطوة في سوق تسوكيجي.
ويبدو الوضع في مياه الشواطئ الجنوبية والغربية لأستراليا, حيث يكثر أيضا البلح البحري والمحار والكابوريا وتقوم 16 من سفن الصيد التابعة لستير بعيدا عن الشاطئ بصيد أسماك تونة صغيرة غير مكتملة النمو يجري وضعها ببطء شديد جدا في شباك , لحمايتها من أسماك القرش, ثم يجري جرها إلى مناطق الشاطئ القريبة من ميناء لينكولن وإفراغها في أقفاص عملاقة تحت الماء.
وخلال خمسة أشهر يتضاعف وزن هذه الأسماك ليصبح حوالي 17 كيلو جراما للسمكة الواحدة. وفي العادة يجري إطعامها مرتين في اليوم بأغذية تعجل في السمنة على شكل كريات صغيرة. ومن المعروف أن وجود الدهون في لحوم التونة عامل مهم في توفير المذاق الشهي، وكذلك الأمر بالنسبة للون هذه اللحوم الذي ينبغي أن يكون وسطا بين الأحمر والزهري.
ولهذه الأسباب بالذات يظهر على أجساد الأسماك التي يجري نقلها إلى سوق تسوكيجي عن طريق البحر أو عن طريق الجو بعض الانبعاج عند منطقة الذيل. وفي هذا الموضع على وجه الدقة ينخز زبائن تاكيدو بصناراتهم الأسماك فيقدرون بذلك وفي ضوء تجاربهم وخبراتهم نوعية هذه الأسماك. ويبدو أن هاجن ستير ليس قانعا بطريقته في الصيد, وهي الطريقة التي تتعرض لانتقاد شديد من قبل حماة البيئة, فهو يحلم بمزيد من التحكم بالأسماك وهي في الأسر للحصول على نتائج أفضل, غير أن محاولاته لم تتكلل بالنجاح حتى الآن. ولكن العاملين في ميناء لينكولن يعرفون من خلال تجربتهم أيضا أن هذا الرجل لا يستسلم بسرعة.
الساعة الآن هي السادسة والنصف. لقد انتهى المزاد وابتدأت مرحلة شحذ السكاكين الطويلة على منصات منصوبة في جميع أنحاء القاعة تمهيدا لتشريح الأسماك الجامدة, بعد أن تم تقطيعها بالمناشير الكهربائية تحت وهج مصابيح النيون , إلى شرائح فيليه. وأثناء هذه العمليات كان يلقى بأطنان من عظام العمود الفقري والزعانف إلى حاويات القمامة, بينما كانت الشرائح الثمينة من لحم التونة يجري تغليفها بورق خاص ثم ترتب في ثلاجات التجميد, ومن المعروف أنه لن تطول إقامتها هناك لأن المتخصصين في لف حبات السوشي في المطاعم يبدأون في هذه اللحظات عملهم ضمن الوردية المبكرة.