اقتصادنا وفترة تداول الأسهم الجديدة
يبدأ اليوم تطبيق نظام جديد لساعات العمل في سوق الأسهم، يوحِّد فترتي التداول السابقتين في فترة واحدة تبدأ عند الساعة 11 صباحا وتنتهي عند 3:30 بعد الظهر. يبدو أن هذا الترتيب لا يحظى بقبول وشعبية لدى قطاع عريض من عامة وصغار المتعاملين في سوق الأسهم، خاصة المرتبطين منهم بساعات العمل في الدوائر الحكومية والخاصة. فهم يرون أن هذه الفترة لن تسمح لغالبيتهم بمتابعة السوق. وهم بحاجة لمتابعته بعد أن وجدوا فيه فرصة لتحسين أوضاعهم المالية لمواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة الذي عانوا منه بشكل متصاعد خلال السنوات العشر الأخيرة. ويرى البعض الآخر أن فترة واحدة متصلة ستكون مجهدة، ويرى آخرون أن نهاية فترة التداول تصادف وقت صلاة العصر مما لا يسمح للموظفين العائدين من أعمالهم بمتابعة السوق. كما يحتج هؤلاء بأن رأيهم لم يؤخذ به ولم يستطلع، ولو تم ذلك لقبلوا برأي الأغلبية أيا كان. في حين أن مجلس هيئة سوق المال كان قد أعلن أن هذا التوقيت هو الأنسب من بين عدد من الاقتراحات التي درست، بعد أن قام باستطلاع آراء المستثمرين، ويبدو أن المقصود عدة جهات منها البنوك والغرف التجارية ومكاتب الاستشارات المالية. كما ذكر بيان الهيئة أن هذا التوقيت يتوافق من ناحية أخرى مع ساعات العمل في بقية أسواق المال في المنطقة وبقية دول العالم.
وفي تصوري، أن توحيد فترتي التداول هو إجراء تنظيمي مطلوب ومقصود. فهيئة سوق المال تهدف من خلاله ـ مع مرور الزمن وبالتضافر مع إجراءات أخرى قد تتخذ كعدم السماح مستقبلا بالتداول المباشر في السوق وإنما عن طريق الوسطاء الماليين المتفرغين ـ أقول إن هيئة سوق المال تهدف من ذلك للقضاء تدريجيا على الظواهر الاقتصادية السلبية التي رافقت الصعود الجنوني لسوق الأسهم في السنوات الثلاث الأخيرة. كظاهرة انشغال كل أطياف المجتمع بالمضاربة المحمومة في سوق الأسهم، وتدهور إنتاجية العمل في مختلف المصالح الحكومية وربما بعض المؤسسات الخاصة، إضافة لتعطل النشاط الاقتصادي في عدد من القطاعات التجارية والإنشائية والزراعية وغيرها، بسبب انتقال الأموال من هذه القطاعات إلى سوق الأسهم بحثا عن الأرباح غير العادية التي كانت تدرها المضاربة فيه. ولا شك أن انتقال الأموال من قطاعات إنتاجية حقيقية في الاقتصاد إلى نشاط المضاربة في السوق الثانوي لتداول الأسهم، هي ظاهرة سلبية على المستوى القومي ـ وإن كان الأفراد يرون فيها استثمارا يحقق لهم مكاسب - لأن هذا النشاط لا يؤدي إلى زيادة الطاقة الإنتاجية الكلية للمجتمع ولا إلى زيادة الدخل القومي. فالمضاربة في سوق الأسهم، ما هي إلا نقل لملكيات صكوك (الأسهم) أو الثروات النقدية الموجودة أصلا في الاقتصاد من يد إلى أخرى. وهي تندرج تحت ما يعرف بلعبة المجموع الصفري لمجمل عمليات التداول Zero Sum Game فما يكسبه طرف في هذه الأسواق هو خسارة طرف آخر، والمجموع الكلي للخسائر يعادل تقريبا المجموع الكلي للمكاسب، ومن ثم فلا يتحقق للمجتمع ككل أية مكاسب اقتصادية حقيقية، وإن كان بعض الأفراد يكسبون على حساب أفراد آخرين. فإذا أضفنا لمجمل هذه الصورة طبيعة سوق المال ذا المخاطر المرتفعة، وقلة خبرة أغلب المتعاملين بأساليب المضاربة في مثل هذه الأسواق، وسوء تصرف كثير من المتداولين الذين اقترضوا للمضاربة أو باعوا مساكنهم ومجوهراتهم، فضلا عن العيوب الفنية والإدارية الأخرى الموجودة في السوق كتعطل نظام التداول الإلكتروني المتكرر من جانب البنوك، وسوء إدارة المحافظ الاستثمارية فيها، وضعف المحاسبة والشفافية، لعلمنا أن ضحايا هذه السوق سيكونون دائما هم صغار المتداولين.
لا شك أن هذه الظواهر السلبية قد أزعجت المراقبين الاقتصاديين الوطنيين، لما فيها من هدر لإمكانات المجتمع، وسوء توجيه للأموال من الأنشطة المنتجة إلى الأنشطة الطفيلية غير المنتجة وغير المولدة للوظائف. وقد سبق أن أشرت إلى خطورة هذا التوجه على اقتصادنا في الأجلين المتوسط والبعيد، في مقال نشرته في هذه الجريدة قبل نحو عام (بتاريخ 6/ 9/ 1426هـ) بعنوان: "من طفرة العقار إلى طفرة الأسهم .. أين الطريق؟". وقد تضافرت هذه التطورات مع غياب وجود مشروع اقتصادي قومي قوي وواضح، إضافة لغياب السياسات الاقتصادية والإدارية المحفزة لقيام فرص استثمارية جديدة، والقادرة على كسر القيود المعطلة لزيادة المنافسة في الأنشطة الاقتصادية المختلفة، وتحسين شكل توزيع الثروة في المجتمع، أقول تضافرت كل هذه العوامل إلى انزلاق اقتصادنا في نفق معتم وغير سار.
كان الأمل أن يؤدي تراكم الإيرادات النفطية الضخمة التي تحققت في السنوات الأخيرة إلى حدوث رواج حقيقي في اقتصادنا كما حدث في طفرة السبعينيات، بحيث تؤدي إلى انتعاش شامل في مجمل الأنشطة الاقتصادية الإنشائية والزراعية والتجارية والخدمية. لكننا رأينا كيف انحصر الأمر في رواج مضاربات محمومة وجنونية، حولت البلاد إلى ما يشبه صالات القمار المفتوحة، فعطلت الإنتاج، وأدت إلى أن يفقد صغار المتداولين ثرواتهم لصالح كبارهم.
ولا يمكن أن يلام عامة الناس كأفراد على انتهاج هذا السلوك، فهم يتفاعلون مع الواقع كما يجدونه أمامهم، فتضيق فرص الكسب أمامهم دفعهم لخوض غمار المضاربة في سوق الأسهم عندما وجدوا فيها مجالا لتحسين أوضاعهم المعيشية، لأن توجيه الاقتصاد وأنشطة الأفراد نحو ما هو مفيد للأمة، هو من مهام ومسؤولية الجهات الحكومية التي تشرف على تخطيط ورسم وتنفيذ السياسات النقدية والمالية عن طريق توليد حوافز ملائمة وكافية، لتوجيه الأموال وأنشطة الناس نحو القطاعات المنتجة والمفيدة للبلاد والمولدة للوظائف.
إنه ليحز في النفس كثيرا، أن نرى هذا التدهور في حياتنا ومستوانا المعيشي على الرغم من تصاعد الإيرادات النفطية في السنوات الأخيرة، فمن استمرار انتشار البطالة إلى تراجع مستوى بعض الخدمات الأساسية كما في التعليم والصحة، بل بلغ تدهور الأمور ذروته عندما عجز الناس عن الحصول على أبسط وأهم ضرورات الحياة - كالماء - وفي أشد أوقات الحاجة كظرف شهر رمضان والعيد. نعم لقد أمضى الناس عيدهم هذا العام في بعض مدن المنطقة الغربية بلا ماء!!
يحدث كل هذا في الوقت الذي نرى فيه الحركة الاقتصادية في دول الجوار الخليجي ـ التي لم تبلغ إيراداتها النفطية ما بلغته إيرادات خزانتنا العامة - تنبض بالحياة وتتحول إلى ورش عمل ضخمة ومستمرة تسابق الزمن وتعمل على مدار الساعة ليل نهار لإنجاز المشاريع في أقصر فترة زمنية ممكنة.
ما الذي دهانا؟ وكيف تجرى الأمور في بلدنا؟ هل فقدنا الرؤية الواضحة والإرادة الصادقة والعزيمة الماضية للنهوض ببلادنا؟ إن دولا في العالم تقفز من قائمة الدول الفقيرة المتخلفة ـ كسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وأخيرا الهند والصين - لمصاف الدول الناهضة في غضون أربعة عقود، بينما فشلت كل خطط التنمية الثمان في بلادنا في إحداث تغير جوهري وحقيقي في حياتنا وفي هيكل اقتصادنا الذي ما زال معتمدا بشكل كبير التقلبات التي تحدث في أسواق النفط!
انشغلنا بسوق الأسهم وأغفلنا التركيز على واقعنا ومستقبلنا الاقتصادي، وسنحصد ما نزرع، فسنن الله ماضية في الكون!