حقيقة ما يجري في بورما
لا شك أن ما يتعرض له اليوم طائفة من مسلمي بورما من مجازر وعمليات قتل واغتصاب على يد مواطنيهم غير المسلمين هو حدث بشع يندى له الجبين. أما الأكثر بشاعة فهو صمت المجتمع الدولي ومنظماته الحقوقية التي كان من المفترض فيها التحرك سريعا إزاء الحدث على نحو ما فعلته في رواندا مثلا. ومن الأطراف التي يجب أن تلام أيضا الدولة المسلمة المجاورة لبورما، أي بنجلاديش التي سدت الأبواب في وجوه النازحين والهاربين من الصدامات الدموية بحجة ضعف إمكاناتها المادية واللوجستية لاستيعابهم، مع علمنا المؤكد بفقرها واكتظاظها بالسكان (يسكنها 160 مليون نسمة فوق مساحة تعادل مساحة ولاية إيوا الأمريكية ذات الملايين الثلاثة).
خلال العقود الماضية لم تكن قضية مسلمي بورما مثارة كما هي اليوم. كان الحديث عن بورما (ميانمار) يدور فقط حول ديمقراطيتها الوليدة بعد الاستقلال في 1948، أو عن سنواتها العجاف تحت حكم الديكتاتور ''ني وين''، أو عن قمعية ووحشية الطغمة العسكرية التي قفزت إلى السلطة في 1982 وجمدت نتائج انتخابات عام 1990 الديمقراطية، أو عن السيدة ''أونج سان سوتشي'' رمز الديمقراطية وصوت الأمل. وأخيرا سلطت الأضواء على خطوات زعيم البلاد الحالي ''تين سين'' الإصلاحية والانفتاحية التي أشدنا بها في مقال سابق.
في مختلف هذه المراحل وحول كل هذه المواضيع كتبت مقالات كثيرة، متجاهلا انتقادات البعض ممن لم يكن يرى فيها فائدة انطلاقا من مبدأ أن الكتابة في الشأنين المحلي والعربي أكثر جدوى من الكتابة عن شؤون بلاد بعيدة.
ويبدو لي الآن أن ''تين سين'' لا يملك كلمة الحسم داخل القيادة البورمية، أو أنه مجبر على مراعاة التوازنات داخل أروقة الحكم بدليل أنه لم يتخذ موقفا شجاعا من المذابح التي يتعرض لها جزء من شعبه، بالرغم من كل ما قيل عن إنسانيته ورهافة حسه. بل إن موقفه كان متخلفا كثيرا عن موقف النائبة البرلمانية الجديدة ''أونج سان سوتشي'' التي شددت فيه على ضرورة أنْ تكون مسألة الأقليات وحقوقها في ميانمار على سلم أولويات الحكومة المدنية التي تولت السلطة منذ 2011. ومن ضمن هذه الأقليات، بطبيعة الحال، الأقلية المعروفة بـ ''الروهانج'' المسلمين التي قال عنها ''تين سين'' في بيان رسمي إنهم مهاجرون غير شرعيين ولا ينتمون إلى ميانمار، وأيدته في موقفه هذا شخصيات وجماعات رسمية وغير رسمية.
وقبل أن ندخل إلى صلب الموضوع، ونحاول معرفة أسباب ما يتعرض له ''الروهانج'' من مجازر وحملات إبادة، وأسباب توحد مختلف الأطياف في ميانمار في عدم إدانتها، لا بد من توضيح بعض الحقائق:
1- يتكون سكان بورما من نحو 135 أثنية مختلفة معترف بها: أهمها إثنيتا ''بامار'' و''شان'' البوذيتان (تشكلان معا نسبة 77 في المائة من السكان)، وإثنية ''تشين'' التي تدين غالبية أفرادها بالمسيحية (2.5 في المائة)، وإثنية ''كارين'' التي تتبع الديانتين المسيحية والبوذية (7 في المائة)، وإثنية ''كاتشين'' وغالبيتها من المسيحيين (1.5 في المائة). هذا إضافة إلى العديد من المجموعات الإثنية غير المعترف بها مثل البورميين المسلمين من أصل صيني المعروفين بـ ''بانتاي'' (3 في المائة) والبورميين المسلمين من الروهانج (0.15 في المائة)، والبورميين المنحدرين من أصول هندية وبنجالية (2 في المائة). وعلى حين تتعايش الأقليات مع الأغلبية في مختلف ولايات البلاد دون مشكلات أو صدامات، فإن الوضع مختلف في ولاية ''راكين'' الغربية المحاذية لبنجلاديش، حيث يتركز المسلمون الروهانج (شعب الروهينجيا).
2- أقلية الروهانج، التي ينقسم المؤرخون بحدة حول أصل ومصدر اسمها ما بين قائل، نظر إليهم على الدوام من قبل السلطات والجماعات القومية بأنهم مجرد أجانب مقيمين، وليسوا مواطنين. وعليه فقد تعرضوا خلال العقود الماضية إلى انتهاكات جسيمة لحقوقهم الأساسية مثل التمييز ضدهم في العمل والزواج والتعليم، وفرض قيود على حركتهم وسفرهم، ومصادرة ممتلكاتهم، وتحديد عدد من ينجبون من الأطفال.
3- حملة الترويع والإبادة الحالية ضد الروهانج، التي أشعلت فتيلها حادثة اغتصاب وقتل لامرأة بوذية من سكان ''راكين'' على يد ثلاث رجال من مواطنيها المسلمين (طبقا لمصادر مستقلة) لئن كانت الأبشع والأوسع منذ سنوات، فإنها ليست الأولى. فأثناء الاحتلال الياباني لبورما في 1942 ذبح القوميون من ولاية راكين نحو خمسة آلاف من مواطنيهم الروهانج. وبعد الإطاحة بحكومة الرئيس المنتخب ''أونو'' على يد العسكر في 1962، استهدفت السلطة الجديدة مسلمي الروهانج بوحشية وطريقة ممنهجة. وفي 1978 أطلق العسكر ''عملية التنين'' لطرد الروهانج من ولايتهم، ما اضطر معه نحو 200 ألف شخص للهرب إلى بنجلاديش للإقامة في مخيمات اللاجئين. وقد أكملت الطغمة العسكرية تلك الخطوة المتوحشة بنزع الجنسية والهوية البورمية عن هؤلاء في الثمانينيات، ناهيك عن قيامها في مطلع التسعينيات بعملية تهجير جديدة لهم تمخضت عن فرار 250 ألف شخص إلى دول الجوار كبنجلاديش وماليزيا وتايلاند).
إن حقيقة تركز الروهانج في ولاية ''راكين'' المحاذية لبنجلاديش تحديدا ينبئ بأنهم من ذوي الأصول الهندية البنجالية ممن جاء المستعمر البريطاني بأجدادهم إلى بورما بعد الحرب العالمية الثانية للعمل في مشاريعه الخدمية وأجهزته الإدارية. ولما كان هؤلاء أكثر علما وثقافة من سكان البلاد الأصليين فقد بنوا لأنفسهم نفوذا وثروات وإقطاعيات زراعية على حساب السكان المحليين البوذيين، ما أوغر صدور هؤلاء ضدهم. ومن هنا فإن للصدام العرقي الحالي في هذا الجزء من ميانمار تحديدا دون غيرها من أجزاء البلاد رواسب وجذورا تاريخية واقتصادية ودينية متشابكة. ولعل ما أخرج تلك الرواسب إلى السطح اليوم في صورة مجازر وحشية تذكر المرء بمجازر الخمير الحمر هو عامل إضافي حديث. وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة دورا مهما في التذكير بهذا العامل، وبيان أخطاره المحدقة بهذه البلاد وسكانها من معتنقي البوذية، وتحشيد الجماهير البورمية غير المسلمة خلفه.
ولعله بسبب هذا العامل أيضا صمتت شخصيات وجماعات لطالما رفعت أصواتها ضد القمع والظلم والمجازر مثل الزعيم الروحي لشعب التيبت الدالاي لاما، وكهنة الثورة الزعفرانية، والناشط البورمي الداعي للعدالة والديمقراطية ''كوكوغي''.
والمتصفح لبعض المواقع الإلكترونية والمدونات وصفحات ''الفيس بوك'' سيصطدم حتما بحملة كراهية ضد مسلمي بورما بسبب ما يقال عن دعمهم أو تماهيهم مع مخططات وأفكار بعض الجماعات الإسلامية المتشددة الهادفة إلى تغيير الأوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية بالقوة في الدول الآسيوية ونشر الفوضى بها، بما فيها تلك التي تدين غالبية سكانها بالإسلام.
ومما قيل ويقال، والعهدة على الراوي، إنه بعدما فشلت تلك الجماعات المتشددة من تحقيق أهدافها في إندونيسيا والفلبين وتايلاند وماليزيا وبنجلاديش، فإنها تريد خلق ذرائع لشن حرب جهاد جديدة تستهدف ميانمار، وذلك لأسباب عديدة أهمها كون هذه البلاد أكبر معقل لديانة وثنية، ووجود الاحتقان التاريخي ما بين البوذيين والروهانج الذي يسهل تحريك الفريق الثاني ضد الأول، وحالات الفقر والإحباط والانقسامات القبلية والعرقية وانتشار السلاح التي تسود البلاد.