الصينيون ضليعون في الاقتصاد ومفاوضون بارعون
الصينيون ضليعون في الاقتصاد ومفاوضون بارعون
لا شك أن حكومة بكين تتميز بالذكاء، لقد وضعت لدى شركة إيرباص طلبا لشراء 150 طائرة لكنها اشترطت مقابل ذلك بناء مصنع للتجميع في الصين، حيث سيتم إنجاز أربع طائرات في الشهر اعتبارا من عام 2009، وبالطبع يدرك الأوروبيون تمام الإدراك أن الحكومة الصينية ليست مهتمة فقط بإيجاد أماكن عمل في بلادها، وإنما هي مهتمة أيضا باستيعاب المعارف التكنولوجية لتتمكن ذات يوم من القيام بنفسها ببناء طائرات ركاب كبيرة ستبدو على الأرجح شبيهة بطائرات "إيرباص".
ويقول أحد الخبراء الأوروبيين بنوع من التسليم بالأمر الواقع: "مهما يكن الأمر فإن الصينيين سيقلدوننا ذات يوم، ولكن من خلال بنائنا مصنعا للتجميع في الصين يمكننا أن نكسب بعض المال لبضع سنوات مقبلة".
إن الصينيين ليسوا أذكياء فقط، وإنما هم يسيرون أيضا على نهج أحدث النظريات الاقتصادية، التي تقول أن سياسة الدولة في مجال التصنيع يمكن أن تكون ذات مغزى في بلد من البلدان التي تجد نفسها في مرحلة التعويض عما فات، ومن أجل ذلك تقوم بتقليد منتجات عالية القيمة لبلدان متقدمة اقتصاديا. ولكن النظرية الاقتصادية تنص أيضا بأن سياسة التصنيع تفقد مغزاها في اللحظة التي يتمكن فيها اقتصاد بلد من البلدان باللحاق بالآخرين وليس مجرد تقليد منتجات آخرين وإنما ضمان القدرة على الإنجاز من خلال عمليات الابتكار.
إن لهذه النظرية آباء عدة، ولعل أهمهم هو دارون أتشيموجلو، وهذا اسم ينبغي تذكره جيدا للمستقبل، لأن أتشيموجلو البالغ نهاية الثلاثينات من العمر يعتبر اليوم أحد أبرز الاقتصاديين. ومن الجدير بالذكر أن أتشيموجلو مولود في تركيا، ودرس في بريطانيا، قبل أن ينتقل إلى أمريكا حيث حصل منذ بضع سنوات على درجة أستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ذائع الصيت، وهو يركز في بحوثه على النمو والتنمية بشكل خاص.
وبنجاحه الكبير أحرز أتشيموجلو وسام جون- بيتس- كلارك التي تمنح مرة كل سنتين لأحد الاقتصاديين المرموقين ممن تقل أعمارهم عن الأربعين سنة، ويعتبر الحصول على هذا الوسام خطوة مهمة في الطريق نحو الأعلى. يذكر على سبيل المثال أن نحو عشرة من حاملي هذا الوسام قد حصلوا فيما بعد على جائزة نوبل ومن بينهم بول سامويلسون وميلتون فريدمان.
إن مقولة أن السياسة الصناعية قد تكون مجدية بالنسبة إلى البلدان التي تكون في مرحلة السعي إلى الحاق بالآخرين ممن سبقوها تناقض نظرية السوق الاقتصادية التي ترى أن السياسة الصناعية بشكل عام هراء في هراء. هذا وتجدر الإشارة إلى أن النظرية البحتة تستشهد بموضوعية فريدريش فون هايك التي تقول إن الدولة لا تملك إطلاقا المعارف الضرورية بشأن التطور اللاحق للاقتصاد لكي تتمكن من تحديد نوع المشاريع أو القطاعات التي تستحق فعلا الدعم والمساندة.
لكن النظرية البحتة توجد، للأسف الشديد، في حالة حرب مع الحقيقة والواقع، كما يقول أتشيموجلو واثنان من زملائه في أحد بحوثهم، ذلك لأن عملية التطوير الاقتصادي في العديد من البلدان يجري التدخل فيها من قبل الدولة مما يحقق لها النجاح في كثير من الأحيان ـ إن لم يكن دائم). وحدث هذا قبل 100 سنة تقريبا في أوروبا وأمريكا، مثلا، من خلال الحماية الجمركية أو من خلال السماح بإنشاء أنواع من الشركات الاحتكارية، وحدث هذا أيضا في اليابان قبل عشرات السنين، حيث استطاعت سياساتها الصناعية، البعيدة عن سياسات السوق أن تجعلها ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، وينطبق هذا الآن أيضا على بلدان مثل الصين.
وبالتالي فليس ثمة ما يدعو إلى الاستغراب في أن الفكرة الأساسية وراء إمكان استفادة البلدان التي تسعى إلى الحاق بركب التطور من تدخل الدولة لم يجر تطويرها في أيامنا هذه وإنما قبل أكثر من 150 سنة. فالاقتصادي الألماني فريدريش ليست (1789 – 1846) كان قد نصح، في ذلك الحين، ألمانيا التي كانت تعاني من التخلف الاقتصادي باللجوء إلى الحماية الجمركية ضد المنافسة القوية التي كانت تشكلها السلع الإنجليزية إلى أن يصل الاقتصاد الألماني إلى مستوى مساو لمستوى الاقتصاد الإنجليزي. وبشكل ما يبدو أن أتشيموجلو وشركاه يقتفون الآن آثار ليست ويسيرون على نهجه.
ترى لماذا لا تصح النظرية الاقتصادية البحتة، أو لا تنطبق إلا بصورة جزئية على البلدان الساعية إلى الحاق بركب التطور ؟ لأن وجهة نظر هايك بأن الدولة تجهل الكثير ولا تعرف إلا النزر اليسير، هي وجهة نظر ليست صائبة تماما، فبلدان مثل الصين تخطو للأمام عن طريق تقليدها الآخرين، وهي تنتج نسخا طبق الأصل لبضائع موجودة لدى بلدان أخرى وطرق إنتاجها معروفة وبالتالي فهي لا تستلزم توافر إنجاز ابتكاري.
ولعل "إيرباص" خير مثال على ذلك، فالطائرة التي سيجري تجميعها في الصين مستقبلا هي من طراز تم تطويره في الثمانينيات من القرن الماضي ولا يحتوي على أي أسرار علمية، ولكنه لا يزال مطلوبا وسيكون من السهل تصريفه في الأسواق بعد بضع سنوات، خصوصا إذا كان الصينيون في وضع يمكنهم من طرح نسخة من هذه الطائرة في الأسواق بأسعار متدنية. ومما لا شك فيه أن الحكومة في بكين تعرف جيدا أين ينبغي لها أن تستثمر.
صحيح أن هذه التوليفة بين الدولة واقتصاد السوق يمكن ألا تظل فاعلة إلى الأبد، فهي قد تبلغ نهايتها عندما يستطيع اقتصاد البلد الساعي إلى الحاق بركب التطور الوصول إلى القمة فلا يعود نشاطه منحصرا في عمليات التقليد والاستنساخ وإنما أصبح واجبا عليه أن يبرهن بأنه أصبح ذا قدرة على الابتكار والإبداع. وهنا تجد وجهات نظر هايك والنظرية البحتة لنفسها شيئا من المصداقية، حيث تنشأ المعارف الجديدة في الاقتصاد بطريقة غير مركزية ودون الحاجة إلى تخطيط، وبالتالي لا تستطيع الدولة أن تعرف مسبقا أي القطاعات الاقتصادية الأجدر بالدعم والتطوير، لأن المنافسة والسوق هما وحدهما الحاسمان في هذه الحالة، وأدرك ليست نفسه هذه الحقيقة منذ القرن التاسع عشر.
ولكن ليست كانت له أيضا وجهة نظر أخرى مفادها أن الدولة التي أقحمت نفسها مرة في الاقتصاد ليس من السهل عليها أن تنسحب حتى ولو ثبت أن تدخلها لم يعد مجديا منذ فترة طويلة. وهنا أيضا تقدم شركة إيرباص مثالا على ذلك، إذ إن ثمة أسبابا مقنعة لتقديم الدعم المالي للشركة في مراحلها الصعبة الأولى. غير أن "إيرباص" استمرت في تلقي الأموال من الدولة حتى بعد أن أصبحت تحقق الربح.