من صاحب القرار في صندوق النقد الدولي؟

من صاحب القرار في صندوق النقد الدولي؟

قبل بضعة أعوام قال كبير خبراء الاقتصاد في أحد البنوك الألمانية الكبرى إن العاصمة الأمريكية واشنطن هي المعقل الرئيس لخبراء الاقتصاد في العالم. قد تكون وجهة النظر هذه مبالغا فيها بعض الشيء، وقد تلقى أيضا معارضة شديدة من جهة الاقتصاديين السياسيين والمحللين في المراكز المالية الكبيرة مثل: نيويورك، طوكيو، ولندن، وحتى في فرانكفورت. لكن ومع ذلك تلازم العاصمة الأمريكية سمعة أنها تجتذب العقول من علماء الاقتصاد (السياسي) بحكم أنها المقر الرئيس للبنك المركزي الأمريكي، لكن من جهة أخرى أكثر وجاهة فإن أسباب هذه الجاذبية أيضا تعود لكون واشنطن تحتضن هذا الحصن الاقتصادي داخل المبنى الموجود في شارع 19 . إنه الرئيس لصندوق النقد الدولي الذي يقال عنه إنه يضم خبراء اقتصاد أكفاء من جميع أنحاء العالم، هذا إن لم يكونوا الأفضل على الإطلاق في العالم.
صندوق الدعم النقدي يعرف كيف يحافظ ويصون تلك السمعة المكتسبة، فكفاءة خبراء الاقتصاد السياسي العاملين فيه تحيط تحليلات الصندوق وتوصياته بهالـة تعطي الإيحاء بأنه معصوم من الخطأ، ولكن هذا الإيحاء طبعا لا يصيب الحقيقة دائما. فالأزمة الاقتصادية التي مرت بها القارة الآسيوية في نهاية التسعينيات فاجأت جميع المنظمات الدولية، وألحقت بسياسة إدارة الأزمات المتنازع حول جدارتها ضررا كبيرا لسمعة صندوق النقد الدولي، وأصبح الحديث الآن، أن حتى التوصيات المرجعية الأساسية لخبراء الصندوق في مجالات الاقتصاد السياسي، مما يعتبر الشغل الشاغل الرئيسي والجذري لهم، لا يمكن الوثوق بها بتلك الثقة العمياء.
وهكذا يسجل المصرفيون في البنك المركزي الأوروبي في دفاترهم بنبرة انتصار خافتة، كيف أن التحذيرات السابقة الصادرة أيضا من صندوق النقد الدولي، والتي تحذر من سياسة التشدد المالي في منطقة اليورو، تتهرب باستمرار من الاعتراف الذي صرح به بأن البنك المركزي الأوروبي لم يكن متجاوبا بالسرعة الكافية بقراراته المأخوذة منذ عام 2005 برفع الفوائد. لكن وعلى الرغم من ذلك لم تؤثر لغاية الآن مثل تلك التقديرات الخاطئة على سمعة خبراء الاقتصاد في صندوق النقد الدولي.
إن دوره تجاه الدول الأعضاء فاعل، فصندوق النقد الدولي يعلق على السياسة الاقتصادية المتبعة لديها، ويساعدها في أزمات الميزان الحسابي بقروض قصيرة المدى، ويدفع على المدى البعيد لقروض جارية بشروط إلى انتهاج سياسة اقتصاد في الأسواق أكثر فاعليـة من أجل تجنب الوقوع في أزمات في المستقبل. نفوذ الصندوق وسمعته كمنشأة حيادية مزعومة، وملتزمة بأن تتبع العقلانية في السياسة الاقتصادية يرتبطان بالدرجة الأولى بكفاءة وجودة النصائح القادمة من المبنى في الشارع 19. هذه هي صورة صندوق النقد الدولي الطيب الذي على الرغم من الانتقادات التفصيلية إلا أنه لا يزال يحدد مصداقية الإدراك والحس العمومي في الدول الصناعية على الأقل. ولكن هذه صورة مشوهة.
في الواقع، ليس خبراء اقتصاد الصندوق الدولي هم من يقررون في شؤون منح القروض، والذي من المحتمل أن يكون خطوة غير جيدة لو فعلوا، بل من يقرر هم المساهمون في صندوق النقد الدولي: على رأسهم الولايات المتحدة، فهي تتمتع كمساهم وحيد بحق الأقلية المعارضة في أهم الهيئات الإدارية للصندوق؛ وأما بالنسبة لباقي الدول الأعضاء من مجموعة السبعة ومن بينهم ألمانيا، فلها تأثير كبير. مجمل الحديث هو أن السياسة الدولية هي التي توجه صندوق النقد الدولي.
ولكن إلى أي النتائج المفرطة ستؤدي هذا السياسة، يوضحه علماء الاقتصاد الثلاثة (اكسل دريهر) و( جان إيجبرت ستورم ) و( جيمس فريلاند) . هؤلاء الخبراء قاموا بدراسة حول ما إذا كانت عضوية دول أعضاء الصندوق في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة هي التي تحدد سياسة صندوق النقد الدولي. للوهلة الأولى يبدو ذلك الأمر منافيا للعقل وغريبا. فكما هو معروف، تمتلك القوة العظمى الولايات المتحدة مقعدا دائما في مجلس الأمن، بجانب أربع دول أخرى، يتمتع جميعهم بحق الفيتو. ولأجل اتخاذ قرار ما، يستلزم الأمر - بجانب أصوات الدول الخمس دائمة العضوية - أربعة أصوات من الدول الأعضاء العشرة ذات عضوية محددة بعامين. فماذا سيكون المانع من رشوة تلك الدول الأعضاء في خضم النزاع حول اتخاذ قرارات سياسية في مجلس الأمن ؟ من النظرة الأولى تبدو هذه الأفكار مناسبة جدا للولايات المتحدة التي تتبع في الآونة الأخيرة سياسة خارجية نشطة. فحسبما أظهرته الدراسات، تقدم الولايات المتحدة مساعدات تنموية أكثر للدول ذات العضوية المؤقتة في مجلس الأمن. فهل هذه صدفـة ؟
في الظاهر، يبدو أن صندوق النقد الدولي شريك في هذه اللعبـة. مثال على ذلك : بعد استقلالها في عام 1961 لم تحصل تنزانيا على أي مساعدات مالية أو قروض من صندوق النقد الدولي لمدة 15 عاما. وبعدها تقدمت الدولة بطلب عضوية في مجلس الأمن، وحصلت في عام 1975 / 1976 على مقعد مؤقت. وبمجرد التوقيع بقبول العضوية في عام 1974 حصلت الدولة على قرض من صندوق الدعم يفوق 6.3 مليون من عملة الصندوق وهي ( حقوق السحب الاستثنائية ) وكان هذا القرض غير مربوط بأي شروط، وكذلك القرض الممنوح في العام الذي تلاه بقيمة 3.15 مليون وبالإضافـة حصلت تنزانيا في عام 1975 على قرض أساسي قابل للطلب بقيمة 10.5 مليون.
فهل من قبيل الصدفة أن تصوت تنزانيا في ذلك العام بالموافقة على جميع قرارات مجلس الأمن التي تدعمها اليابان وأمريكا وفرنسا وبريطانيا ونعني بها الدول التي لها الكلمة الأولى والأخيرة في صندوق النقد الدولي ؟ في عام 1976 انقلبت الآية، وصوتت تنزانيا بالإيجاب لقرارات لم تلق بذلك الترحيب والدعم من الولايات المتحدة ولا من بعض الأعضاء الدائمين. والنتيجـة: القرض الأساسي التي كانت تنزانيا موعودة به من عام 1975 لم يدفع لغاية الآن. فهل هذه صدفـة أيضـا ؟
خبراء الاقتصاد السياسي الثلاثة يقدمون في دراستهم العديد من الاختبارات الاقتصادية التي تصب جميعها في دلو واحد: الدول التي تحصل على عضوية مؤقتة في مجلس الأمن الدولي تحصل في الأغلبية مرارا على قروض أساسية من صندوق النقد الدولي. وهذه النتيجة غير مقصورة على المنطقة التي تقع فيها الدول الأعضاء. كما يجد محررو الدراسة دلائل تشير إلى أن القروض الممنوحة للدول ذات العضوية المؤقتة مربوطة بشروط أقل من تلك المعتمدة في قروض دول أخرى.

كما يذكر الخبراء الثلاثة في دراستهم إشارات تقول إن العوامل الاقتصادية في منح القروض مثل نسبة العجز في ميزان الإنتاج أو قيمة العجز في ميزانية الدولة، لا تلقى وزنا يذكر في سياسة منح القروض في صندوق النقد مثل وزن عضويتها في مجلس الأمن الدولي. حقيقـة، في صندوق نقد دولي مثل هذا الذي توجهه السياسة الدولية، لا يحتاج المرء إلى التساؤل حول كفاءة وجودة الاقتصاديين السياسيين العاملين فيه.

الأكثر قراءة