ماناوس : صين برازيلية في قلب غابات الأمازون

ماناوس : صين برازيلية في قلب غابات الأمازون

تعود شهرة مدينة ماناوس الساحلية في البرازيل الواقعة وسط حوض الأمازون إلى دار الأوبرا الأسطورية، والتي تم تأسيسها في نهاية القرن الأخير من قبل أقطاب المطاط الأثرياء. فمع قبتها اللامعة وفخامتها المترفة، فهي عبارة عن إحدى البقايا العجيبة لأحلام الأوروبيين القادمين من بعيد بالثروة الكبرى، والتي ذابت سريعاً من جديد في غضون أعوام قليلة بفعل الحرارة الملتهبة للغابة الممطرة. لقد كان المطاط مصدراً للانتعاش الوفير، والحياة المترفة لنحو 20 عاماً فقط.
واليوم يعيش في المدينة التي يمر بها نهر ريو نيجرو نحو مليوني نسمة و تعتمد كلية على اتفاقية منطقة التجارة الحرة التي تم توقيعها عام 1957 و تطوّرت في الوقت الراهن لتصبح أكبر منطقة للتجارة الحرة في أمريكا اللاتينية. ونظراً لجاذبية الدولة الرخيصة، والمميزات الضريبية، تستوطن في الوقت الراهن في ماناوس التي يطلق عليها ( صين داخل البرازيل ) ما يزيد على 450 شركة دولية وبرازيلية. وتستخدم في منشآتها الإنتاجية ما يزيد على مائة ألف من الأيدي العاملة والذين يحققون قيمة إنتاجية في الوقت الراهن بما يعادل 20 مليار دولار. ويعود الجزء الأكبر من الإنتاج على السوق البرازيلية نفسها، والتي يعيش فيها نحو 180 مليون مواطن. ويتم تخصيص نحو 10 إلى 15 في المائة من الإنتاج فقط للتصدير.
إن مدينة ماناوس عبارة عن كوكبة لتجمّع القطاع الإلكتروني، ومصنّعي الدراجات النارية. وكل جهاز تليفزيون، والذي يتم بيعه اليوم في البرازيل، يعود أصله إلى ماناوس وحتى أجهزة تشغيل أقراص الفيديو الممغنطة - DVD ، وماكينات الحلاقة، والهواتف النقّالة، وأجهزة البلاي ستيشن، والكمبيوترات، كلها في العادة تنبثق عن المنشآت الإنتاجية في الأمازون. وتُعتبر الشركة الأجنبية المصنّعة الأولى والتي استوطنت في المنطقة التجارية الحرة في الأمازون، هي الشركة الهولندية "فيليبس". وحالياً، عملت مجموعة الشركات اليابانية "سوني" على بناء أربعة مصانع لها هناك، والمجموعة الكورية المنافسة "سامسونج" تعمل على الإنتاج هناك فعلياً ضمن منطقتين صناعيتين. وعملت المجموعة الأمريكية "جيليت"، على وضع مقرها المركزي لأمريكا اللاتينية في منطقة التجارة الحرة. والشركة الفنلندية لتصنيع الهواتف النقالة "نوكيا" تشغّل في ماناوس إحدى أكبر مناطقها الإنتاجية خارج فنلندا، وتوظّف ما يزيد على 1500 شخص. وبالطبع يُعتبر اليابانيون روادا، حيث عملوا على تعزيز ماناوس كثاني أكبر نقطة ارتكاز لهم في البرازيل، بعد "ساو باولو"، وحتى في إنتاج الدراجات النارية. وتنتج هوندا اليوم نحو 1.8 مليون دراجة نارية سنوياً في مصانعها هناك، وتشغّل نحو عشرة آلاف عامل وموظّف. وحتى شركة ياهاما لا تغيب من هذا السياق، وكذلك الشركة الأمريكية المصنّعة للدراجات الصغيرة "هارلي ديفيدسون"، والتي تملك في ماناوس المنطقة الصناعية الوحيدة لها خارج الولايات المتحدة الأمريكية.
وبفضل منطقة التجارة الحرة الناجحة، بقيت الغابة الممطرة في منطقة الأمازون محتفظةٍ بعذريتها إلى حدٍ كبير، حسبما ورد عن الحاكم، كارلوس إدواردو براجا. وبالمقارنة مع الدول المجاورة، يوجد هنا في قلب حوض الأمازون عمل كاف، ولا أحد يحتاج إلى تدمير الغابة الممطرة، ليعيش. وقد بدت هذه العلاقة الودية أكثر، خاصةًَ عندما سيطرت منطقة التجارة الحرة على الأوقات التجارية الصعبة على نحوٍ جيد، وهي ما تزال كذلك حتى وقتنا الحالي. وما تزال ماناوس تجتذب المزيد من المصنّعين الجدد، ولم تشهد المنطقة حتى الآن حركة من الهجرة، حسبما ورد عن ممثلي المنطقة الحرة في ماناوس.
وعلى نحوٍ متراجع مضت الأمور مع بداية فترة التسعينيات: حينها عانى الاقتصاد البرازيلي ليس من حجم التضخم المرتفع فقط، ولكن من ارتفاع قيمة النقد بقوة أيضاً؛ وقد ساعد القانون التشريعي الجديد، والذي نص على ضرورة تخصيص نسبة مئوية محددة من القيمة المضافة للموطن البرازيلي، الشيء الذي عمل على إنجاح الشركات. وكان على مصانع خطوط الإنتاج الخالصة التحوّل إلى المزودين البرازيليين على نحوٍ إجباري، أو إغلاق أبوابهم. حينها انخفض عدد الموظفين في منطقة التجارة الحرة من 14 ألف إلى ما يقل عن عشرة آلاف.
واليوم انتعش حجم التوظيف من جديد، بينما الحصة البرازيلية من تحقيق القيمة المضافة لدى أغلب المنتجات تسجّل نحو 90 في المائة، ولدى درجات هوندا النارية نحو 95 في المائة.
وتهتم في الوقت الراهن نحو 19 كلية ومدرسة متخصصة بالمستوى التعليمي المناسب، والتأهيل المتخصص للأيدي العاملة، حيث تتعاون هذه الكليات والمدارس المتخصصة مع الجامعات المحلية بصورة وطيدة. وفي الوقت ذاته، تشتكي الشركات من حجم النقص في القوى العاملة المتخصصة والمؤهّلة، حيث توجد أيد عاملة بما يزيد على الكفاية. وحتى معدل الأجور، والذي يسجّل نحو 10 في المائة أقل من معدل الأجور في سي باولو، يُعتبر مقبولا. وفي المقابل، تنقص غالباً العلوم المتخصصة، أو بعض درجات التأهيل الخاصة.

ويبقى حجم الاختناق الأكبر في البنية التحتية للنقل والمواصلات. يمكن لكبرى سفن الشحن البحري الانطلاق من ميناء ماناوس. إلا أن الميناء لا يعمل بكفاءة كافية، ولا تسير تدابير شحن السلع بسرعة بصورة كافية، حسبما تشتكي الصناعة. وينطبق عدم الرضا على أجواء الشحن الجوي أيضاً، والذي يتمركز في قبضة شركة الطيران البرازيلية "فاريج". ويمكن القول أن هناك استثناء، إذا ما أشرنا إلى الشوارع ضمن شروط معينة، بما أن ماناوس تملك روابط مسفلتة على نحو جيد إلى المدن الكبرى في جنوب البرازيل، أو إلى الموانئ على الأطلسي. ويرتحل الجزء الأكبر من السلع إلى موانئ الأطلنطي عن طريق شاحنات الحمولة الثقيلة. وعلى أية حال، فإن الرحلة والتي يبلغ امتدادها نحو ألف كيلومتر تستغرق من خمسة إلى ستة أيام.

الأكثر قراءة