«الأسبرين» من أكثر الأدوية مبيعا في التاريخ بمليار دولار رغم الحماية الضعيفة
في الوقت الذي استعرض فيه ماريين ديكرز، الرئيس التنفيذي لشركة باير، أحدث النتائج الفصلية لتلك الشركة الألمانية المختصة بعلوم الحياة والمواد الكيميائية، عرض على الحضور عددا كبيرا من التغيرات. لكن كان هناك ثابت واحد، وهو منتج الأسبرين، الذي ظل المنتج الرئيس للشركة منذ عقود عدة.
أطلقت شركة باير مسكن الألم أسبرين قبل أكثر من قرن من الزمن، ولا يزال هذا الدواء يشكل مبيعات قوية بلغت 766 مليون يورو في عام 2010. وهذا يجعله واحدا من عدد قليل من الأدوية الرائجة التي تنتجها ''باير'' والتي يحقق الواحد منها مبيعات سنوية تزيد على مليار دولار، وفي طليعتها الدواء بيتافيرون لعلاج التصلب المتعدد، وعقار ياز لمنع الحمل، لكن أسبرين هو الدواء الوحيد الذي مضت عليه فترة طويلة وهو لا يتمتع بحماية براءات الملكية الحصرية.
يقول فليمنج أورنسكوف، رئيس التسويق الإستراتيجي في قسم باير لأدوية الرعاية الصحية: ''من الصعب أن نتخيل شركة باير دون أسبرين، أو العكس. إنه جزء متكامل من تاريخ الشركة. وأتمنى أن يكون بمقدوري القول إن الشركة انطلقت منذ مائة سنة ليكون لها هذا العقار كنجاح مستدام.''
مع ذلك، فإن قصة هذا الدواء، واستمرار هيمنة ''باير'' على سوق الأسبرين - الذي أصبح اسما علميا لمُسكِّن الألم الذي أطلقت عليه ''باير'' هذا الاسم - هي نقيض القصة التقليدية للدواء الحديث، الذي تستثمر فيه إحدى الشركات مبالغ لا يستهان بها في الأبحاث والتطوير في سبيل تصنيع أحد المنتجات وتسجيل براءة اختراعه وبيعه لمدة محدودة قبل أن تفقد السيطرة عليه ليذهب إلى الشركات المنافسة التي تصنع الأدوية بأسمائها التجارية.
على الرغم من أن الأسبرين يقوم على علاج قديم، ويعاني حماية ضعيفة من حيث الملكية الفكرية ويعاني منافسة حادة، إلا أن أسبرين باير نجا من محاولات تجريد الشركة من اسمه، ومن إجراءات تنظيمية صارمة، ومن حالات هلع صحية دورية، ليظل واحدا من أكثر الأدوية مبيعا في التاريخ.
في السنة الماضية بذلت الشركة مجهودا تسويقيا مُرَكزا جديدا للعقار، ما نتج منه زيادات في المبيعات من خانتين. ويقول جاي كولبون، نائب الرئيس لقسم رعاية المستهلكين في شركة باير: ''قمنا بعمل رائع في الدعاية والتوصيل بصورة عامة حول أسبرين إلى درجة أن المستهلكين نسوا فعاليته الممتازة في تسكين نطاق واسع من الآلام.''
مر الدواء بحالات من التطور التي كانت مصممة لإبقاء ''باير'' في موضع السيطرة. يذكر أن هذا الدواء مأخوذ من لحاء شجرة الصفصاف، وكانت القيمة الطبية لهذا المستخلص معروفة منذ أيام أبوقراط في عام 400 قبل الميلاد، كما استخدمه طبيب إنجليزي في القرن الثامن عشر لمعالجة آلام الروماتيزم. وقد تم تطوير المكوِّن الفعال في الدواء، وهو حامض أستيل السالِسيليك، في عام 1853، ولم تبدأ علاقة ''باير'' بالدواء إلا في عام 1897 حين قام الصيدلاني فيلكس هوفمان العامل في الشركة بتركيب مستحضر ثابت من الدواء. وخلال سنتين - تماما في الوقت الذي كانت تقوم فيه الشركة بتسويق الهيروين على نطاق تجاري باعتباره دواء للسعال - أطلقت ''باير'' الدواء تحت العلامة التجارية أسبرين، والذي أصبح بسرعة أكثر الأدوية مبيعا في العالم. يشار إلى أن كلمة أسبرين مشتقة من الحرف ''أ'' في كلمة أسيتيل، ومقطع ''spir''، المأخوذ من نبتة spiraea (وهي مصدر المكوِّن ساليسين)، ومقطع ''in'' الذي كان مقطعا شائعا في أسماء الأدوية في ذلك الحين.
كان من الأسباب الأساسية وراء نجاح الدواء استثمار ''باير'' المتواصل في العلامة التجارية. ففي بريطانيا والولايات المتحدة تلقت ''باير'' براءات اختراع، لكن في كثير من البلدان، ومن بينها ألمانيا، لم تستطع الشركة إلا الحصول على تسجيل كعلامة تجارية للأسبرين.
أثناء الحرب العالمية الأولى انتُزِعت ملكية العلامتين التجاريتين للشركة - باير وأسبرين - في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ومعظم مناطق الكومونوِلث البريطاني، الذين كانوا متحالفين في الحرب ضد ألمانيا. وقد كافحت الشركة بقوة لاستعادة حق الاستخدام الحصري للعلامة التجارية أسبرين في بقية العالم، ولاستعادة الحقوق في الأماكن التي يمكن لها الحصول عليها. ولم تستطع الشركة أبدا أن تفوز مرة أخرى بحماية العلامة التجارية في الولايات المتحدة، لكنها تمكنت في نهاية الأمر من الاستحواذ من جديد على اسم ''باير'' في عام 1994. وهذا أتاح لها إمكانية تسويق ''أسبرين باير''، وكان ذلك إيذانا بالبدء في جهود مكثفة لتسويق العلامة التجارية على نطاق عالمي.
هناك عامل ثان، وهو التوسع المنتظم لاستخدامات أسبرين الطبية. في البداية كان الدواء يباع لعلاج الروماتيزم، ثم لعلاج اللمباجو (ألم عصبي في أسفل الظهر) وآلام الأعصاب، ثم ازدادت قيمة الدواء بصورة كبيرة. وفي الثمانينيات وافقت الأجهزة التنظيمية على استخدامه ضد الحالات المتكررة من الجلطات والسكتة القلبية.
وقد جاء كثير من التطبيقات الجديدة للدواء من خلال تحليلات ''بأثر رجعي'' للاستخدامات القائمة واسعة النطاق وليس من التجارب السريرية ''المرجوة'' والمتوقعة.
يقول أورنسكوف: إن ''باير'' لا تزال تنفق أكثر من مليون يورو سنويا على الاختبارات، رغم أن أحد كبار التنفيذيين السابقين يقول: ''جاء كثير من الدافع لتسويق الأسبرين من أعمالها في المنتجات الاستهلاكية. وإن إخصائيي الأدوية الابتكاريين هم مالكون لهذا الاسم التجاري الكبير على غير رغبة منهم.''
سبب ثالث وراء نجاح ''باير'' في مجال الأسبرين هو عمليات إعادة التشكيل الدورية، وجميعها محمية كعلامات تجارية – لتجديد جاذبيته.
في أوائل القرن العشرين، حولت الشركة تركيبة الدواء من مسحوق إلى حبوب. وفي الخمسينيات أنتجت نسخة قابلة للمضغ لاستخدام الأطفال. وفي السبعينيات أضافت إليه فيتامين ج تحت اسم أسبرين بلَس سي، على شكل حبوب فوارة. وفي التسعينيات أضافت ''باير'' طبقة إلى حبة الدواء تحت الاسم أسبرين بروتِكْت (الوقاية)، وهي حبة تذوب في الأمعاء بهدف تقليص مخاطر مشاكل المعدة، وهو ما أصبح مصدر قلق بين الأطباء في السنوات الأخيرة. وتستمر ''باير'' في تطوير أشكال متعددة للدواء، وكان أحدثها هو إنتاج حبة بجرعة قليلة تحت اسم كارديو (له علاقة بالقلب) للوقاية من الحالات المتكررة من الجلطات والسكتة القلبية، وأنتجت كذلك حبة تحت العلامة التجارية كافي أسبرينا، الممزوجة مع مادة الكافيين.
كذلك استفادت ''باير'' من تسويقها المكثف المتواصل للأسبرين. في البداية استهدفت الشركة الأطباء، وكان العقار يباع دون وصفة اعتبارا من عام 1915. بالإضافة إلى ذلك، تستمر بعض الخدمات الصحية في بعض البلدان، بما في ذلك بريطانيا، في وصف الدواء وأحيانا رد نفقاته، وهو ما يضيف إلى الصدقية الطبية للأسبرين ويساعد على تبرير أسعاره المرتفعة (قياسا إلى غيره من الأدوية المشابهة).
يظل أسبرين من ''باير'' في الدعاية والإعلان بصورة واسعة، مع التركيز على المستوى العالي للشركة والنطاق الواسع لاستخدامات الدواء. وقد أشعلت بعض الحملات الدعائية ردود فعل وتوبيخ، بما في ذلك رسائل من اللجنة التجارية الفدرالية وهيئة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة، بسبب ادعاء الشركة لاستخدامات طبية لم يصرَّح بها من قبل الأجهزة التنظيمية.
تعمل الشركة على ترويج وتعزيز صدقيتها من خلال رعاية جوائز أسبرين العلمية وهيئات التمويل التي من قبيل مؤسسة الأسبرين في بريطانيا، التي تدافع عن الاستخدام الواسع للدواء. أنشئت هذه المؤسسة في السبعينيات بهدف مناوأة حملات الشركات المنافسة لتسويق دواء باراسيتامول (الاسم العلمي للدواء بانادول)، وهي حملات كانت تحذر من مخاطر الإصابة بمتلازمة ريز Reyes syndrome، وهو مرض نادر ولكنه مميت مرتبط باستخدام الأطفال للأسبرين. وتعمل المؤسسة في الوقت الحاضر على نشر الأبحاث التي تشير إلى ما ينطوي عليه الدواء من قدرة على الاستخدام في تطبيقات جديدة.
أخيرا، نُشرت دراسة أكاديمية جديدة قامت بتحليل قدرة الأسبرين على منع السرطان.
صحيح أن ''باير'' خسرت منذ أمد طويل براءة الاختراع وقلصت من استثماراتها الخاصة في التطوير، لكن في الوقت الذي تسعى فيه صناعة الأدوية للتنويع في منتجات جديدة أقل خطورة والدخول في الأسواق الناشئة، يظل أسبرين علامة تجارية رئيسة تثير الحسد.