هل الابتعاث إلى أمريكا مغامرة؟

هل الابتعاث إلى أمريكا مغامرة؟

هل الابتعاث إلى أمريكا مغامرة؟

<a href="mailto:[email protected]">iqtisad@fantookh.com</a>

يندر أن تجد شخصا درس أو عمل في أمريكا يتأسف على ذلك، بغض النظر عن توجهه وميوله الفكرية أو هواياته أو حتى مستوى محافظته الدينية. فحقيقة الأمر أن أمريكا تتناسب مع جميع الأطياف الفكرية والسلوكية، بحكم التنوع الثقافي والديني وهامش الحرية المتاح في المجتمع بشكل عام. بل إن الشعب الأمريكي يعتبر من ألطف الشعوب الغربية وأكثرهم احتراما للآخر. إلا أنه ومنذ عام 1993، وبالتحديد بعد التفجير المدبر في قبو مركز التجارة العالمي في نيويورك، والذي قيل إن مجموعة من العرب قاموا بتدبيره، ازداد التركيز والمراقبة الأمنية على العنصر العربي والمسلم في أمريكا. أما أحداث 11 سبتمبر فهي القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد تزايدت تداعياتها لاستهداف العرب والمسلمين وخصوصا السعوديين. إن القوانين الجديدة التي سنت، والصلاحيات الواسعة جدا التي أعطيت للجهات الأمنية لاقتحام خصوصية العرب وملاحقتهم بمختلف الوسائل، أوجدت نوعا من الحساسية نحو العرب، وتسببت في تكوين بيئة وجو مشحونين ومتوتين. لقد حدثني أحد الأصدقاء، الذي لم يتبق له إلا عدة أشهر لمناقشة رسالة الدكتوراة، أنه تعرض لعدة مضايقات واستدعاءات وتحقيقات من مكتب التحقيقات الفيدرالية، مما أثار ذعره وتسبب في تردي حالته الصحية. رغم أن هذا الصديق ليس لديه أي أنشطة أو هوايات أو توجهات قد تثير الجهات الأمنية هناك. لعل ذنبه الوحيد هو سحنته وجنسيته!
وإن كنا نحصل على بعض التطمينات من المسؤولين الأمريكيين، إلا أن الموقف تجاه المملكة أو الإسلام يختلف من شخص إلى آخر. فإن كنا نسمع تعليقات ودودة من بعض المسؤولين أو البرلمانيين، فإننا في الوقت نفسه نسمع من آخرين موقفا معاديا ومتغطرسا. يا ترى ماذا سيحدث لآلاف المبتعثين هناك؟ في الأصل أنهم سيعودون سالمين من دون أي معوقات تستحق الذكر. إلا أن البيئة الحالية في أمريكا - مختلفة عن كثير من الدول الأخرى - قد تتسبب في بعض المضايقات والملاحقات الأمنية لمن ثبت أنهم أبرياء. إن كثرة المبتعثين هناك، وخصوصا من هم في مقتبل العمر، قد يتسبب في تعرضهم للابتزاز والإشكاليات الأمنية والقضائية. كما أن هؤلاء المبتعثين عرضة للتأثر بالأفكار الضالة، سواء الغالية في الدين أو المعادية له الموالية للدول الأخرى. وقد يكون من الأخطار المحتملة استهداف أبنائنا من جهات ليس بالضرورة أن تكون رسمية، لتوظيفهم لتحقيق مصالح معادية لمصالحنا الوطنية والإسلامية أو استدراجهم لمضار صحية أو نفسية كالإدمان في المخدرات.
من وجهة نظري أن ابتعاث الطلبة والموظفين إلى أمريكا أمر لا يستهان بضرورته، ولكن لا بد أن تقوم الجهات ذات الاختصاص بدراسة وتحليل إيجابيات تلك البعثات وسلبياتها، وما قد توفره من فرص لنا أو ما قد تتسبب فيه من مخاطر. وبعد هذا التحليل يمكن أن نحدد أعداد الطلبة الذين يتم توجيههم إلى أمريكا. إن البعثات إلى أمريكا في الوقت الحاضر من دون القيام بهذه الدراسات التحليلية يعتبر مغامرة قد نأسف عليها مستقبلا.
على كل، لعلي أقدم بعض التوصيات للجهات ذات العلاقة ببعثة الطالب وهي الأسرة، الجهات الحكومية ذات العلاقة، والمبتعث نفسه. فيجدر بأسر المبتعثين وأقاربهم التواصل المستمر معهم وتفادي التطرق لمواضيع أو مصطلحات عبر الهاتف أو البريد الإلكتروني تثير الاشتباه. أما بالنسبة للجهات الحكومية ذات العلاقة، فأرى أنه من الأنسب اقتصار البعثات على مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وإن كانت المشكلة في عدم استيعاب جامعاتنا لطلبة البكالوريوس، فمن الممكن تقديم المنح الدراسية المدفوعة للجامعات الأهلية وكلفتها بالطبع قليلة جدا بالنسبة للابتعاث الخارجي. كما يجدر تأهيل المبتعثين دينيا ووطنيا وفكريا وقانونيا، بل لا بد من تأهيل الأجهزة الحكومية ذات العلاقة بالطلبة سواء المحلية أو في أمريكا للتعاطي مع الأعداد المتزايدة والظروف المتوترة وتطوير الأقسام القانونية ودعمها للتعامل الأمثل مع الأحداث والتنبؤ بأي مخاطر محتملة على أبنائنا. إنه من الضروري الحفاظ على المبتعثين وربطهم بوطنهم وذلك بتشجيعهم للمشاركة في المناسبات الدينية والوطنية. بل لا بد من عقد اللقاءات الدورية معهم بحضور المختصين والمربين والخبراء للنقاش في المواضيع المختلفة التي تساعدهم على التعاطي مع المجتمع الأمريكي وتحقيق الأهداف المرجوة منهم. إن الطلبة المبتعثين في أمس الحاجة إلى زيارة المتخصصين في مجال دراستهم من أرض الوطن لربطهم به ونقل مستجدات المجال وتحفيزهم للتركيز على المجالات التي تسهم في دفع عجلة التنمية.
أما توصياتي للمبتعث فهي كثيرة جدا، ولعلي أذكر منها التركيز على الدراسة ومحاولة التميز في التخصص. كما لا بد أن نشير إلى ضرورة احترام الأنظمة والقوانين المحلية وتفادي أي مخالفات قد تكون مفتاحا للمضايقات والملاحقات. ولا بد أن يدرك الطلبة العرب أن تحركات الإنترنت مراقبة في الغالب، فيجدر تفادي الدخول على المواقع التي لا تليق بالبلد المستضيف حتى لو من باب الفضول. وعبثا يحاول البعض الالتفاف على الأجهزة الرقابية في الإنترنت وهنا يكمن الخطر، فإن بعض الوكالات الأمنية تركز على الأنشطة الملتفة أو المتخفية بغض النظر عن مدى خطورتها. لا بد أن نشير هنا إلى ضرورة التواصل مع الأقسام القانونية بالملحقية أو السفارة، وخصوصا عند حدوث أي إشكالية أو حتى ريبة. إن أكبر خسارة للمبتعث هو العودة من هناك من دون محاولة التعرف على المجتمع الأمريكي ومجتمع الأعمال والتجمعات الأكاديمية والمؤتمرات. بالطبع فإني أوصي مبتعثينا بالحفاظ على دينهم وهويتهم وإعطاء الانطباع المتميز عن مجتمعنا. وأخيرا نوصي المبتعثين بعدم اصطحاب الخادمات من دون الحاجة لشرح الأسباب!!
حقيقة أتقدم شخصيا بالشكر لتوجه الحكومة لتطوير العنصر البشري، وعدم البخل على هذه المهمة الرئيسية، وأشكر أيضا وزارة التعليم العالي على جهودها الحثيثة وحرصها على إنجاح المهمة وتنفيذها بشكل سلس وحيادي، وما هذه المقالة إلا للإسهام في فتح باب النقاش الجاد في دراسة وضع الابتعاث وتطويره وتحسينه بما يحقق أهداف وطننا قبل غيره.

الأكثر قراءة