وجهة نظر سلبية تمامًا حول حريات الإنترنت
لمدة عقد على الأقل ظل الناس يتوقعون أن الإنترنت، في الوقت الذي تبلغ فيه مرحلة النضج، ستصبح تجربة ذات طابع شخصي أقرب بالنسبة للمستخدمين. وتوقع نيكولاس نيجروبونتي، أستاذ التقنية في معهد ماساتشيوسِتس للتقنية إنه سيصبح بإمكان الناس بمرور الزمن انتقاء البرامج التلفزيونية والصحف وإعداد صحف شخصية من طراز ''يَوْمِيَّتي'' حسبما يناسب فضولهم. لكن كاس صنشتاين، الأستاذ في جامعة شيكاغو (الذي أصبح بعد ذلك أحد المسؤولين التنظيميين في البيت الأبيض)، كان يميل إلى التشاؤم. فقد كان يشعر بالقلق من أن تجربة الإنترنت الشخصية المفصلة حسب الشخص من شأنها أن تعزل المواطنين وتحوِّل الإنترنت إلى مكان مبهرج رخيص ذي طابع أيديولوجي مضاد للثقافة. وبالتالي فإن الناس سيتوصلون إلى ما يرغبون فيه ويتعاطونه بشراهة.
لكن كان الافتراض هو أن هذا الطابع الشخصي، إن خيراً أو شراً، سيتم تنفيذه من قبل مستخدمين أحرار في إنترنت مفتوح تسوده الديمقراطية. ويتناول كتاب ''فقاعة المرشِّح''، من تأليف الناشط السياسي في مجال الإنترنت إيلي باريزر، قصة الكيفية التي لم يتحقق فيها هذا التوقع.
إن من وضَع قواعد تعميق الطابع الشخصي للإنترنت هم ''جبابرة الترشيح''، على حد تعبير المؤلف، أي ''جوجل'' و''يوتيوب'' و''أمازون'' و''فيس بوك'' وغيرهم. وربما تظن أنك تستخدم أدوات البحث الموجودة على مواقع هذه الشركات، لكنها في واقع الأمر هي التي تستخدمك. إن عاداتك في التصفح والنقرات التي تقوم بها على الفأرة تكشف لتلك الشركات ما هي الأنباء التي تريد مشاهدتها، والمنتجات التي تريد شراءها، ونوع الحجج التي ستبرم أي عملية بيع. وبصورة متزايدة تصبح شركات الدعاية والإعلان أفضل من ذي قبل من حيث استخدام هذه المعلومات للإغراء والاستغلال. يقول المؤلف: ''إن المرشحات الشخصية تتلاعب بأكثر الأجزاء اندفاعاً ورعونة في شخصيتك''. إن الإنترنت ليست شخصية على النحو الذي نجده في بذلة مفصلة عند أحد الخياطين، بل إن الجانب الشخصي فيها يأتي على نحو ما تكون فيه مذكرة الابتزاز ذات طابع شخصي – بمعنى أن تكون مناسبة أكثر ما يمكن لنقاط الضعف في شخصيتك''.
كان هذا الخطر مفهوماً تماماً من قبل رواد البحث. حين كان لاري بيج وسيرجي برين يعملان على إنشاء'' جوجل''، كان كل منهما يرجو أن تبقى الشركات التي من هذا القبيل في قطاع المؤسسات التي لا تهدف للربح. وقد قالا: ''نتوقع أن أدوات البحث الممولة بشركات الدعاية والإعلان ستكون منحازة بطبيعتها نحو الشركات المعلِنة، وتكون بعيدة عن حاجات المستهلكين''. وكانا على حق، لكنهما أنفسهما لم يستطيعا مقاومة إغراء البحث الممول بالإعلانات، وبالتالي فإن هذا هو العالم الموجود لدينا.
إن الإنترنت التي وُعِدْنا بها لا تشبه في شيء يذكر الإنترنت التي حصلنا عليها. كنا نظن في السابق أن كون الشخص مُغْفَلاً ومجهولاً على الإنترنت سيتيح للمستخدمين القيام بالتجريب والاستكشاف. لكن حيث أن معرفة ميول وأهواء الناس هي أمر مربح إلى حد كبير، فإن الشركات تعمل الآن بقوة من أجل ''نزع طابع الغُفْل'' عن الإنترنت. ولا بد للصحف ووسائل الإعلام الأخرى، كما يرى المؤلف، أن تعيد اختراع أنفسها على أنها ''شركات للبيانات السلوكية''. من جانب، ربما يجعلنا هذا أكثر أمناً – كشفت شركة لتقصي البيانات والتسويق على الإنترنت، تدعى ''أكسكيوم''، عن بيانات حول 11 شخصاً من الأشخاص الـ19 الذين شاركوا في هجمات الحادي عشر من سبتمبر تفوق ما استطاعت الحكومة الأمريكية بأسرها الكشف عنه. لكن المؤلف يخشى أن ''عالم الإنترنت الشخصي الجديد ربما لم يعد مناسباً للاكتشاف الإبداعي على النحو الذي كان عليه في السابق''.
هناك مشكلة أخرى وهي انعدام التناظر في المعلومات. إن جبابرة البحث لديهم معلومات عن زبائنهم تفوق ما يعلمه الزبائن حول أنفسهم، خصوصاً في الولايات المتحدة. السبب في ذلك هو أن القانون الأمريكي لا يُلزِم شركات غربلة البيانات أن تُطْلِع زبائنها على نوعية البيانات التي تم تجميعها بخصوصهم. يقول المؤلف: ''إن كون البيانات التي يقدمها المستخدمون للشركات ينبغي أن تكون متاحة لنا هو توقع منطقي تماما''. لا فُضَّ فوك!
إن باريزر مؤلف كثير الاستطراد. ويغب عليه أن أن يجيب على الأسئلة من خلال إلقاء حكايات حولها. ويفتقر كتابه إلى حجة قوية عامة، لكن ما لديه هو بوصلة أخلاقية متينة وميلاً جذاباً إلى تصوير الأمور بمرآة مغرقة في السلبية. وهو يدحض بصورة ممتازة التعبيرات المكررة التي تقال حول الإنترنت. وهو يبين لنا أن بيل كلينتون كان على خطأ في ادعائه أن جهود الصين في قمع الحرية على الإنترنت ''أشبه بمحاولة تثبيت الهلام على الجدار.'' تستطيع الحكومات السيطرة على الإنترنت على نحو أسهل بكثير مما نظن. تتألف ''السحابة'' التي يتغنى بها الكثيرون من حفنة من الشركات، وهو ما جعل من السهل حجب موقع ''ويكيليكس'' في عام 2010 وإبعادها عن الإنترنت. والأمر الأكثر إثارة للانزعاج هو أن القوانين الخاصة بحماية الخصوصية لم تلحق بركب التقنية، وتمر معظم الرسائل الإلكترونية للناس من خلال فضاء غير محمي بالدستور – مثل خوادم ياهو وجوجل وهوت ميل. وانظر مقدار الخصوصية التي ستبقى حين تضاف إلى الإنترنت القدرة على البحث عن الوجوه.
يقول باريزر: ''نحن بحاجة إلى أن نبدأ بالتفكير في البيانات الشخصية على أنها نوع من الملكية الشخصية''. إذا كان كلامه صحيحاً – وهو كلام صحيح – فإن ما ننظر إليه على أنه أمر يتعلق بالتقنية هو في واقع الحال مسألة تتعلق بالعدالة. على سبيل المثال، ما هو السبب في أنه ''رغم أن من غير القانوني استخدام صورة الممثل براد بيت لبيع ساعة دون إذنه، نجد أن ''فيس بوك'' حرة في استخدام اسمك لتبيع ساعة إلى أصدقائك''؟ يقترب المؤلف مثل غيره من تفسيره لمشاعر الامتعاض والاعتراض التي يشعر بها كثير من مستخدمي الإنترنت. صحيح أن الإنترنت نعمة كبرى، إلا أن الإنترنت في وضعها الحالي يحيط بها شيء يهدد بأن يجعلنا أقل ابتكاراً وأقل إنتاجية وأقل حرية.