قيمة الوقت في القرآن

للوقت قيمة عظيمة عند الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ ومن قيمته أقسم الله به في سورة العصر، قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
هذه السورة، سورة العصر هي التي قال فيها الإمام الشافعي – رحمه الله : "لو ما أنزل الله على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم" وقد شرح ابن القيم – رحمه الله – كلام الإمام الشافعي في كتابه مفتاح السعادة، وبين – رحمه الله – أن هذه الآية مشتملة على أربعة أمور :
الأمر الأول : العلم وهو معرفة الحق، وهو الذي دل عليه قوله ـــ جل وعلا: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، فالمؤمن يعلم أن الله حق، وأن وعده حق، وأن رسوله حق، وأن لقاءه حق، وأن الملائكة حق، وأن النبيين حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، ثم يعمل بذلك.
وقد دل عليه قوله ـــ جل وعلا: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ثم يدعو الناس إلى ذلك: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) ويصبروا على العلم والعمل والتعليم فهذه أربعة أشياء إذا كملها الإنسان يكون مكملا لنفسه، ومكملا لغيره.
وهذه السورة أقسم الله - جل وعلا - فيها بالعصر، وهو الدهر كاملا، أو العصر وهو الوقت المعروف، أقسم به ـــ جل وعلا ـــ على أن الإنسان لفي خسر، والمراد كل إنسان في خسر، في خسارة وهلاك، إلا من استثناهم الله - جل وعلا - بعد ذلك (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
والخسران هذا بيَّنه الله - جل وعلا - بأنه خسران الدنيا والآخرة في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).
وفي الآخرة يخسر نفسه وماله وأهله، كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة كقول الله - جل وعلا -: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)، وقال ـ جل وعلا: (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)، وقال - جل وعلا: (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ).
وفي هذه السورة استثنى الله - جل وعلا - فيها مَن اتصفوا بالصفات الأربع التي تقدم ذكرها.
فقوله - جل وعلا: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعني: آمنوا بما يجب الإيمان به، وهي أركان الإيمان التي بيَّنها النبي -صلى الله عليه وسلم- (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر)ِ يعني: أوصى بعضهم بعضا بالحق، وهذا دليل على أن الإنسان في نفسه قد عمل الحق؛ لأنه لا يوصي غيره بالحق إلا إذا عمل به، وهذا يدل على أن هناك أمرا بالمعروف.
وقوله - جل وعلا: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) يعني: أوصى بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله، والصبر عن محارم الله، والصبر على أقدار الله، وذلك يقضي بأن هناك نهيا عن المنكر، فهؤلاء موصوفون بأنهم مؤمنون، وأنهم يعملون الصالحات، وأنهم يتواصون بالحق، ويتواصون بالصبر، فيأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويدعون إلى الله - جل وعلا.
والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وإن كان من عمل الصالحات إلا أن الله - جل وعلا - خصه بهذا الذكر لشدة أو لحصول الغفلة عنه من كثير من الناس؛ لأن بعض الناس يظن أنه إذا اهتدى في نفسه، فإن ذلك يكفي، وهذا من الخلط؛ ولهذا قال الله: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر)،ِ فلا ينفع الإنسان أن يخرج من هذه الخسارة، إلا إذا أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر.
وقد يظن بعض الناس أن قول الله - جل وعلا -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) يعارض هذه الآية؛ لأن هذه الآية تأمر بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر؛ وذلك يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآية المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) يظن بعض الناس أنه إذا اهتدى في نفسه كفى.
وقد أجاب العلماء عن ذلك وقالوا: إن الآيتين معناهما واحد، ولا اختلاف بينهما؛ لأن الله - جل وعلا- قال في آية المائدة: (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ما قال - جل وعلا: لا يضركم من ضل إذا لم تأمروه بالمعروف وتنهوه عن المنكر، ولكن الله - جل وعلا - إذا ضل إنسان وكان أخوه المسلم يأمره بالمعروف، وإن كان هذا كافرا، يعني: إذا ضل إنسان بكفره، أو ضل الطريق المستقيم، أو وقع في شيء من المعاصي، وأمره أخوه بالمعروف ونهاه عن المنكر، ولكنه بقي على ضلاله، فإن هذا المؤمن تبرأ ذمته.
وأما إذا لم يأمره بالمعروف ولم ينهه عن المنكر فلا تبرأ ذمته؛ لأن من اهتداء الإنسان أن يكون آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، وإذا لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر لم يكن مهتديا؛ ولهذا جعله الله - جل وعلا - في هذا الآية في خسارة، وذلك دليل على أنه غير مهتد.
وقول الله - جل وعلا: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يدل على أن من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر فليس بمهتد.
فالشاهد أن قوله - جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أي: إذا ضل بعد أن أمرتموه بالمعروف، ونهيتموه عن المنكر ووقع منه ضلال، فلا يضركم ذلك شيئا؛ لأن إثمه إنما يعود لنفسه. أما إذا لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر فتأتي هذه الآية، آية العصر، ويكون الإنسان في خسارة. نعم.
مما تتقدم نجد أن الإنسان الفطن الذي حدد لنفسه هدفا يسير نحوه حتى يسعد في دنياه ويفرح في أخراه بالفوز بجنة ربه ومولاه، علم أن الوقت هو الحياة، فلم يضع من وقته شيئا، واستغله أحسن استغلال؛ فلم يقض وقته فيما لا طائل من ورائه وبعد ذلك يندم على تفريطه، وإنما من البداية يعرف كيف يستثمر وقته، ولنا في رسول الله القدوة الحسنة، حيث كان المثل في الاستفادة من الوقت، فاستطاع أن يعبد ربه ويبلغ دعوته، ويهدي أصحابه، ويعيش حياته مع زوجاته دون أن يقصر في شيء، ومن بعده الصحابة والتابعون وتابعو التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فيروى عن أحد السلف الكرام وكان عالما وله كتب ومجلدات أنه كان يحسن استغلال وقته ولا يضيع أي جزء ولو يسير منه، لدرجة أنه عندما يستقبل زواره في الوقت المخصص لذلك، كان يجهز أدوات الكتابة من المداد وريشة الكتابة وغير ذلك حتى يخرج من وقت الزيارة بما ينفعه في بقية وقته الذي يقضيه في التعليم والتأليف، فكانت ثمرة ذلك أن أنتج لنا المؤلفات العظيمة التي زخرت بها المكتبة الإسلامية رغم بساطة أدوات التأليف والكتابة في ذلك العصر. فالله الله في استغلال الأوقات بما يفيد من الصلاة وقراءة القرآن والذكر والعمل الصالح الذي ينفع الإنسان في الدنيا والآخرة، والسعي لقضاء الحاجات وتعلم القرآن وتعليمه، قال رسولنا – صلى الله عليه وسلم – " خيركم من تعلم القرآن وعلمه". إضافة إلى ما سبق، يتعلم المرء ما ينفعه من علوم الدنيا حتى يبني مجدا ويترك أثرا يظل شاهدا له على ما قدمه، وبذلك يكون قد أفاد نفسه ونفع غيره ويكون مثله كالأرض الخصبة التي استقبلت المطر وأنبتت الزرع، وكالنخلة التي لا تعطي إلا أطيب الثمر ويستفاد من ظلها ومن جذعها وسعفها. فالمؤمن الصالح الذي استغل وقته وبنى نفسه ووطنه وأمته وخلد ذكره في العالمين يلقى ربه سعيدا مطمئنا. الله أسأل أن يكتبنا من السعداء الفائزين وأن نلقاه وهو راض عنا ... آمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي