مجال استثماري عالمي جديد تقوده سنغافورة

مجال استثماري عالمي جديد تقوده سنغافورة

لا يعاني مستشارو الأثرياء من الفقر بأية حال من الأحوال. ومع ذلك فإن باستطاعتهم الآن أن يجنوا ثروات طائلة في سنغافورة التي تعتبر المركز المالي الأهم في جنوب شرق آسيا. فهذه المدينة الدولة تريد بكل طاقاتها أن تطور مجالا اقتصاديا جديدا هو " إدارة الثروات الخاصة ". ولعل الشروط الجيدة المسبقة لضمان نجاح هذا المسعى توفرها المصداقية السياسية وتدني الأعباء الضريبية وسرية الحسابات البنكية المضمونة ضمانة قلعة فورت نوكس الأمريكية. ولكن ما هو غير متوفر، هو العدد الكافي من المستشارين الأكفاء في البنوك.
ولهذا فلا بد أولا وقبل كل شيء من الإنفاق بسخاء، ومن هنا يدور الحديث حاليا عن وسيلة ترحيب ذهبية للخبراء البنكيين في حالة تغيير وظائفهم، حيث سيحصل الواحد منهم على علاوة قدرها 30 في المائة، وزيادة سنوية على الراتب تصل إلى 30 في المائة أيضا، وهذا ليس من الأمور النادرة بالنسبة للمستشارين من ذوي الخبرة. بل يجري الحديث الآن عن هدايا ترحيب بالملايين لمن يحضرون معهم عند الانتقال من أماكن عملهم السابقة إلى وظائفهم الجديدة نصيبا له قيمته من حقائبهم الاستثمارية. وتقول صحيفة بيزنس تايمز في هذا السياق : إن الأكثر عدوانية في مجال استقطاب الخبراء هم الوافدون الجدد على هذه المدينة من أمثال بنك يوليوس بير الذي استطاع أن يستقطب عددا من الخبراء الذين كانوا يعملون لدى بنك كريديت سويس، إضافة إلى المؤسسات ذات الأسماء العريقة مثل بنوك كريديت سويس ويو بي إس التي تستغل استراتيجية النمو من خلال الاستقطاب، أي استقطاب الخبراء من المؤسسات المنافسة.
وفي السنة الماضية وحدها تم تأسيس نحو 80 شركة استثمارية جديدة في هذه الدولة التي يبلغ عدد سكانها أربعة ملايين نسمة، ما أدى إلى ارتفاع العدد الكلي إلى 384 شركة: 22 منها تدير حقائب استثمارية تبلغ قيمتها الإجمالية أكثر من خمسة مليارات دولار سنغافوري 2.5 مليار يورو ، كما يقدر هينج سوي كيت المدير التنفيذي للبنك المركزي للسلطة النقدية السنغافورية. وتزايدت قيمة الاستثمارات المالية المدارة من قبل سنغافورة في العام الماضي بنسبة 26 في المائة لتصل إلى ما مجموعه 720 مليار دولار سنغافوري. بينما كانت عام 2000 في حدود 276 مليار دولار سنغافوري فقط.
وهنا تظهر واضحة للعيان ضرورة تعويض ما فات. حقيقة أن عدد العاملين في مجال إدارة الثروات قد ازداد بنسبة 14 في المائة، ولكن هذه الزيادة هي أقل من المطلوب لإدارة الحجم المتزايد من هذه الثروات. وباختصار يمكن القول إن هامش البنوك قد ازداد لأن تكليف التشغيل تطور بوتيرة تقل عن الوتيرة التي تتطور فيها الثروات التي تديرها. ويقول أحد مديري الثروات من ذوي الخبرات المكتسبة: "إن المشكلة في القطاع الذي نعمل فيه تكمن في أن كل عميل من عملائنا لا يقبل إلا بالمشورة المفصلة له وحده. وبنفس العدد من العاملين لا نستطيع العمل طبعا إلا مع نفس العدد من العملاء وإقناعهم بإضافة أموال جديدة إلى حقائبهم، دون أن نسعى لاكتساب عملاء جدد".
إن هذا النهوض قد تحقق بفضل السياسة الضريبية للدولة في مجال التجارة. فالجزيرة التي ليس لديها أي مواد خام تذكر قد أعلنت أن إدارة الثروات كجزء من قطاعها المالي هي من القطاعات النامية وبالتالي فهي تستحق الدعم السياسي والتشريعي. ولعل من أبرز الميزات التي تتمتع بها هذه الدولة الثرية تكمن في كونها قلعة من قلاع الأمن والأمان في منطقة تعرضت أكثر من مرة خلال السنوات الماضية للهزات. ومن هنا يقبل أثرياء إندونيسيا وماليزيا على العاصمة المالية لجنوب شرق آسيا بهدف زيادة ثرواتهم. وقد امتدح البنك المركزي للسلطة النقدية السنغافورية "ماس" العمل الذي أنجزه في هذا المجال. حيث جاء في تقريره السنوي ما نصه : "إن العديد من المزايا التي تتمتع بها سنغافورة قد جعلت منها المركز الأول لإدارة الثروات في منطقة المحيط الهادي الآسيوية، ومن هذه المزايا : الاستقرار الاجتماعي والسياسي، والبيانات الاقتصادية الأساسية الموثقة والإطار القانوني المتماسك والقطاع المالي المداربشكل جيد وبطابع الدولي إضافة إلى تجمع كم هائل من المواهب والخبرات".
ومما لا شك فيه أن الفكرة بحد ذاتها قد تأصلت حيث إن مصدر أكثر من 80 في المائة من الثروات هو من خارج حدود الدولة المدينة. طبعا لا أحد هنا يحب أن يصرح بذلك بصوت مرتفع، ولكن الجميع يعرف أن إلغاء سرية الحسابات البنكية في أوروبا قد أفادت منه سنغافورة، ولهذا ارتفع نصيب الأموال القادمة من العالم القديم في السنة الماضية من 20 إلى 23 في المائة أو من 115 مليار دولار سنغافوري إلى 165 مليار. وهكذا يكتسب المستثمرون من أوروبا تدريجيا مزيدا من الثقل في مواجهة الأثرياء من المنطقة – حيث تراجعت نسبة الاستثمارات الآسيوية في الفترة نفسها من 46 إلى 44 في المائة.
وفي هذه الأثناء ابتدأ في الظهور قطاع تنموي جديد – ألا وهو التركيز على الأموال النفطية، فالمستثمرون من الشرق الأوسط قد أخذوا في إبداء الاهتمام بسنغافورة منذ أن سمح البنك المركزي للسلطة النقدية السنغافورية بمبدأ إنشاء البنوك الإسلامية والاستثمار في منتجات وفقا للشريعة. ويقول مديرو الصناديق إن الدولارات من دول إسلامية التي تدار من قبل سنغافوريين ازدادت في العام الماضي بنسبة 35 في المائة.
عندما تكون المؤسسات العميلة هي مصدر 45 في المائة من مجموع الاستثمارات يكون من الصواب القول إنها مصدر النصف تقريبا. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: أين وكيف سيعمل المحترفون الماليون في سنغافورة على زيادة عوائدهم؟ إنهم يستثمرون 47 مقابل 44 عام 2004 في المائة في الأسهم، ونحو 20 في المائة في القروض. وبسبب جمود أسواق الأسهم انخفض الاحتياطي النقدي من 17 إلى 15 في المائة. وبفضل معدلات النمو المشجعة راهن خبراء الاستثمار عام 2005، أكثر من أي وقت مضى، على المنطقة، وهي التي يألفونها أكثر من غيرها : حيث استثمروا في بلدان المحيط الهادي وآسيا، وهي على مقربة منهم، 53 في المائة من الأموال التي في حوزتهم بدلا من 46 في المائة في السابق. أما حصة أوروبا فقد تراجعت من 12 إلى 10 في المائة، كما انخفضت حصة أمريكا من 12 إلى 7 في المائة.
ولكن سنغافورة ما كانت لتكون سنغافورة لو لم يغرق المعنيون بالأمر في بحر غطرستهم وجشعهم بعد خمس سنوات من نمو حجم الأعمال في مجال إدارة الثروات الخاصة بنسب تتكون من خانتين، وهو الأمر الذي يوقع أفدح الأضرار بالعملية كلها. ولهذا ابتدأت تعلو أصوات التحذير أكثر فأكثر. فالبنوك، بشكل خاص، تشكو من أن موظفيها الذين يهجرونها للعمل مع الجهات المنافسة لها غالبا ما يأخذون معهم 40 في المائة من الحقائب الاستثمارية التي كانت في عهدتهم. يضاف إلى ذلك أن الزبائن من الآسيويين المستعجلين دائما يعلقون أهمية خاصة على إقامة علاقات مستقرة طويلة الأجل مع مديري ثرواتهم الخاصة.

الأكثر قراءة