"لا تطْبخني في مْرقة غيْري"

<a href="mailto:[email protected]">abubeid@binzagr.com.sa</a>

يقول صاحب عمود "بالمختصر المثير" في "الحياة" إصدار الأربعاء 17/5/2006 "المشكلة أن الكثير" من المسؤولين يتناقلونها على وسائل الإعلام, "نحن سنجلب المستثمر الأجنبي من عرقوبه".. ولكنهم ينسون المستثمر المحلي الذي يحمل "بلايين" حقيقية لا تختلف عما يحملها صاحبه الأجنبي". الأجنبي المعني باستقطاب التقانة والمعرفة والأبحاث والطرق والأساليب الغربية في الإدارة والإنتاج والركض وراء أمواله للاستثمار, عبارة عن "الجلب" للصيد لمناخ استثماري محلي يحتاج لمعالجة جوانبه للترحيب بالاستثمار المحلي حتى يبرهن للمستثمر الأجنبي أن ما يقوله المسؤول مطبق على الواقع.
ارتفاع الدخل الريعي لا يترك مبرراً اقتصادياً "للت والعجن" لنقاش الجوانب السالبة لخروج أموال وطنية للاستثمار الخارجي, ولا لحقيقة جدوى اجتذاب أموال أجنبية للاستثمار المنفرد المتفرِّد محلياً والاستفادة من مكاسب التقدم المنتظرة, ولا يهوِّن كثيرا من حجم حقيقة تعقيد المشكلة الاقتصادية في الاقتصاد الوطني السعودي, على الرغم من تزايد الإنفاق الحكومي على مشاريع تأسيسية حيوية, والدخول في نشاطات إنتاجية جديدة والبقاء على استثمارات حكومية اقتصادية قائمة وتركيز تقوقع ثقل الأموال الخاصة في العقارات والمنتجعات والمحلات التجارية واستيراد السلع الاستهلاكية والكماليات, وتزايد التنظير الفكري لأسباب ومبررات النواقص في الخدمات, وتوزيع النصائح والتمنيات بتوجُّهات تنم عن أن النقص من حولنا ولا يخص الفرد الناصح نفسه, والحلول جاهزة لكل منا ولكنها معطلة من غيرنا على الرغم من تداول الأفراد على المناصب, والكرسي دوَّار والأقدار بيد الله. العالم الذي يبهرنا متغير وأفكاره "مطَّاطه" والنظم ثابتة وتطبيقاتها حرفية خوفاً من "الملامة" ودون تحصين لتجنب الأضرار الجانبية على القرار البيروقراطي وتأنُّف المستثمر الخاص المحلي.
الاتفاقيات الموقعة في التجارة والاستثمار والنشاطات الاقتصادية المختلفة, ترفع الحواجز وتذيب الجنسيات وتؤاخي بين العادات والتقاليد وتقرِّب مفاهيم المعتقدات لبعض الطبقات, لتحريك الأموال والخبرات والمخترعات بين "أعضاء النادي", للفوز بالقدر الأكبر من فوائد مصالح الاستثمار المنتج المربح بين المناطق والأسواق الصديقة للاستثمار ومصداقية التعامل لمن لديه المعرفة والتقانة والقدرة الإدارية, والرغبة لتحريك توجهات أقل قدر من الأموال الأجنبية المتوافرة للاستثمار الأجنبي مزامنة مع كثرة من الأموال المقترضة محلياً . الأموال السعودية تلجأ إلى خارج الاقتصاد لقناعة المستثمرين السعوديين بمفاضلات متوافرة في اقتصاد يعتبر امتداداً للاقتصاد السعودي, وتكتفي استثماراتهم بالتقانة المتوافرة للسعوديين أو مشاركة مع الغير للنجاح في العالم ومناطق مجلس التعاون الخليجي الذي ليس في حاجة إلى أموال أجنبية ولا نقص في توافرها محلياً, ولكن بعداً عن التعطيل وبحثا عن المعرفة والتقانة المطلوبة لنجاح الاستثمار. الاقتصادات النامية التقليدية الحديثة تُقتنى وتُستوعب وتجد فرص الاستفادة والتآخي من استثمار ملكية الأموال الأجنبية المقرونة بالخبرة والتقانة والمبتكرات والاختراعات والأبحاث.
إذاً هنالك مشكلة, فربما هي ليست أن "الكثير من المسؤولين يتهافتون على وسائل الإعلام لجلب الأجنبي من عرقوبه .. وينسون المحلي", بقدر أنهم مقلِّلون من أهمية وضرورة الارتقاء بالأعمال والتعاملات في الاقتصاد السعودي إلى المفاهيم والمستويات نفسها التي عليها الاقتصادات الصناعية الغربية التي تحاكي فكرهم وتتقاسم خبراتهم وتتبارى في التزاحم والتلازم والتزامل معهم . إن هبة الدخل الريعي نعمة من المولى, عزَّ وجل, حسَّنت فرص العمل والتعامل محلياً, وأدخلت عقلية متطورة في الإدارة والمسؤولية تجعل الكثرة البيروقراطية المعوقة لسلاسة سير العمل والمعاملات ترهق القلة من المسؤولين الغيورين على نجاح الأعمال وحرص أفكارهم وخططهم على جذب الاهتمام بتوفير مجالات وقبول تحديات تحسين مناخ الاستثمار, توافقاً مع القيم والقدرات المتوافرة دولياً, والانشداد لاستيعاب التقانة وتطويرها بتعاون بين المؤسسات والأفراد والمشاركات المحلية والأجنبية, حتى تكون من المستجدات لطرق ووسائل الأعمال, منافع مضافة للقدرات وزيادة الإنتاجية ضمن إطار العلم والمعرفة الذي توفره المؤسسات العلمية المتخصصة من برامج مواكبة مسيرة التنمية والبناء, وليست مقامة بفكر متفرِّد لتوفير العلم من أجل وجوده وتوفيره لمن يستطيع أن يصل إليه ويستوعبه, دون دراسة متأنية واعية للحاجة التنموية المتغيرة دوماً.
توفير المناخ المناسب لاستمرار مسيرة النماء والإنتاجية ليس أمنية نتغنى بها بقدر ما هو ترجمة عملية للواقع الذي نختاره والتوفيق بين حقيقة الطرق والمسالك التي نحن عليها, ومقارنتها بمسيرة الاقتصادات الصناعية الغربية الرأسمالية التي نتعامل معها ونرتوي من منابع علمها بالغالي والرخيص دون فطنة لأهمية توفير القدر الكامل المتكامل من الوسائل والطرق لاستيعاب المكاسب العلمية وتوفير مجالات الاستفادة منها, ونُكثر من النقد ذاتياً لفشل جهودنا للمستويات التي نصبو إليها والاستشهاد بأحوال الغير, العين التي تروغ لنا وكأننا نمضغ على جنب واحد.
الغير من الاقتصادات الصناعية والنامية ناجح ومتعثر ومتقدِّم ومتأخر . يعتبر اقتصاد البرازيل من أبرز النجاحات لدولة نامية خلال ربع قرن مضى, لتخرج من تصنيف الاقتصادات المتخلفة إلى المستويات الصناعية الناجحة. وقصة نجاحها تكمن في القدرة الهائلة لاستيعاب التقانة والمبتكرات والاختراعات وتوافر كميات كبيرة لمعظم الثروات والخيرات الطبيعية المطلوبة للصناعة . نجاح الإنتاج والنقلة من تخلف الاقتصاد إلى نمائه, تفسرها قدرة المخططين على التوصل إلى الرؤية المستقبلية للاقتصاد والمثابرة على التنفيذ وفق البرامج الموضوعة لمستويات القرارات المختلفة, ليصبح الحلم حقيقة مهما طال الزمن. الأمثلة كثيرة ومتعدِّدة لظروف وأحوال الاقتصادات المختلفة. أبرزها فيما يتعلق باقتصادنا, من منظور محدودية المتوفر لنا, وتعدُّد النواقص المؤثرة سلباً لمحدودية تحقيق احتياجاتنا أمام تعددها وفرص العمل والبطالة والفوارق الاجتماعية وتباين الدخول والتكاليف المعيشية لشرائح متعددة في الاقتصاد, مثلنا مثل غيرنا . اقتصاديات البرازيل معقدة ويعتريها كثير من المخاطر المنظورة والمجدولة وفقاً لأهميتها وللقدرات والرغبات من أزمة الطاقة العالمية في السبعينيات حيث كانت البرازيل تستورد جميع احتياجاتها, وتضرَّرت من ارتفاع الأسعار ونقص المتوفرات في السوق العالمية مما أدخل اقتصادها في تضخم هبط بعملتها وأكثر من ديونها . استثمرت البرازيل في "الوقت" و"العلم", واستفادت واهتمت لاستيعاب التقانة وتطويع الخبرات الطبيعية لتصبح اليوم موفرة لما لا يقل من 90 في المائة من احتياجات الطاقة من الزيت الخام وقصب السكر وإنتاج مكائن محركة للسيارات والمصانع تعمل على البنزين والديزل والأثيلين وفقاً للحاجة والاحتياج والكفاءة والإنتاجية .
الزيادة في الدخل الريعي تحتاج إلى مضاعفة الفكر والجهد والعمل المتميِّز البنَّاء لجعل الاقتصاد أكثر ملاءمة للاستثمارات الحكومية والخاصة, الاستفادة من الدخل المتوافر والحفاظ عليه لتنويع القدرات العلمية والكفاءات التقنية وتأهيل الطبقات الدنيا لاكتساب العلم والمعرفة للدخول في أعمال نافعة تتناسب مع القدرات المكتسبة والاحتياجات المطلوبة. الاستثمار المفيد يزيد النفع لما يرقى عن حفظ المدخرات وتنميتها, ويقلل النواقص التي عليها الاقتصاد ويزيد من الأعمال والنشاطات التي توفر فرص العمل التي توجد تزايدا في أسواق الطلب على الخبرات التي توفرها مهارة العمالة الأجنبية مساندة لدعم نقص المعرفية المحلية.
أمام زيادة الدخل الريعي واستمرار الفكر التقليدي المتأثر بكثير من المشاعر والتطلعات الغربية الحديثة, المشوبة بفوائد ومضار من داخل المجتمع الاقتصادي الاجتماعي, فإن أرضية الفكر التقليدية السائدة تركز على السلبيات التي نراها ونسمعها, وتبعدها عن كثير من الإيجابيات التي من حولها, ليصبح المواطنون مشاهدين ورواة بدلاً من أصحاب أدوار لمعالجتها. المشكلة تكمن في أن اقتصادنا القوي والمتين, متقدِّم ومتطوِّر بدرجات متفاوتة قد تجعل من تفكيرنا المتفرِّد يراه مفتقداً الاتزان الذي يوضح مساراته ويحدد اتجاهاته وينير طريق من يريد أن يتوسع في أعماله ويدخل في استثمارات جديدة . النظم والقوانين دخلت عليها أخيرا إضافات وتحديثات, لكن كثير من النقص في الربط والتوفيق بينما يقدمه النظام وما يطلبه الواقع تعطل الفرص وتدفع المستثمر المحلي العزوف أو الهروب. الاقتصاد الوطني في حاجة لوقفة تنفيذية لتفعيل بنوده من أجل تسهيل العمل والإنتاج وتوقيف الهدر والانتهازية والتخريب . الموظف متقيِّد بحرفية ما يسمح به النظام ولا يتفاعل بمرونة منتجة وغير ضارة بما لا يتعرَّض له . الترويج لحتمية فعالية النظام وتفعيله في أن يعطي الحق لطالبه ويحميه من مظالمه, مطلب حيوي مهم, ومخرج مؤثر على مستوى النجاح وضروري ألا يقف حجر عثرة في سبيل تحقيق المنجزات والأعمال التي لا يتعرَّض لها النظام بالرفض أو عدم القبول. كثير من الاستثمارات تعثرت وتحوَّلت مساراتها لتوجهات غريبة واقتصاديات تشغيلها ظهرت وكأنها لا تنفع لعدم توافر قدر كاف من التسهيل والتوفيق بين المطلوب والممكن تحقيقه من أجل خدمة المصلحة العامة والفائدة وتعدد مصادر الدخل وزيادته .
إن المستويات الفكرية المتوافرة عالية, ولكن مساراتها ومنابعها متعددة ومتطاحنة وفي حاجة لاعتراف بأن هذا التوجه معوق لتقدمنا وفي مقدورنا توفير مرونة التفاهم والتوافق والانضباط الرسمي لأمورنا الاجتماعية والاقتصادية . تحقيق هذا الهدف بصورة مستدامة يسانده الاهتمام بتحسين نوعية تحصيل العمل والمعرفة مع تكاثر أماكن توافرها. المطلوب معرفة برامج العمل والإنتاج في شتَّى مجالات الحياة الموفرة لنا ميزات تزاحمية وقدرات معقولة مناسبة, وأن التقارب بين احتياجات سوق العمل ومخرجاته متقاربة . الأموال والمدخرات بحمد من الله متوافرة, والإنفاق وفقاً "للاطلاع" متحسِّنة, ولكن الأودية تحتاج إلى جسور وقنوات ومسالك لتحقيق القدر المطلوب من الخير . الاقتصاد يعتمد بعد الله على مصادر محدودة للعيش والمعيشة, ونجاح البرازيل تجربة ناجحة لتوافر قدرة كبيرة لاستيعاب التقانة والعلم الحديث والابتكارات والاختراعات لتنويع مصادر الاحتياجات والطاقات والقدرات وتبنِّي برامج اقتصادية لدعم الأنشطة الصناعية والزراعية العالية التقانة والمشاريع المتدنية الخبرات ودعم الغني المستثمر في داخل الوطن لنجاح مشاريعه ومساعدة الفقير للإنتاج والعمل بعد توفير حصوله على العلم والمعرفة .
الاقتصاد الوطني السعودي قوي والحمد لله, والتوجهات الخيرة لمساعدة المحتاجين ومساندة العاملين متزايدة . الحركة فيها بركة, ويترتب عليها "كبوات" من سوق الخضار إلى سوق المال وتحتاج لوقفات تأمل ومدارسة ومعالجة علمية واعية مستدامة ومترابطة للنشاطات المختلفة. المتوافر من المدخرات والدخول والأفواه والعقول كثيرة. نحتاج إلى مسؤولية عملية لكل منا لترجمة الأقوال لبرامج أعمال ملزمة للعمل ومشجعة للاستثمار المحلي والأجنبي لزيادة الدخل وتنويعه وتوفير مهارة لعمالة وطنية تتناسب مع متطلبات العمل وهدفها توفير الطرق والمسالك للعاملين والعاطلين موسرين وفقراء لجميع الطبقات وفق نظم سهلة وليست معطلة واستثمارات في المعرفة وتعددية مصادر الدخل. والله أعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي