تصريحات بيرنانكيه وردية أكثر من اللازم
لم تدم مشاعر الارتياح التي خلفها تقدير محافظ بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي للسوق طويلاً حيث ما لبثت أن عادت مشاعر الإحباط بعد يوم فقط لتسيطر على أسواق المال من جديد. فمن ناحية يرى عدد متزايد من المستثمرين والمحللين أن توقعات بيرنانكيه متفائلة بشكل مبالغ فيه، ومن ناحية ثانية فإن تصاعد النزاع الشرق- أوسطي يدعو للقلق، وثالثاً يتنبأ بعض العارفين ببواطن الأمور أن إجراءات امتصاص السيولة، التي أعلن عنها البنك المركزي الصيني أخيرا يمكن أن تكون لها عواقب بعيدة المدى على أسواق الأسهم والمواد الخام، ونتيجة لذلك تراجعت أسعار الأسهم يوم الجمعة من جديد .
ووفقا لتنبؤات بيرنانكيه سيشهد الاقتصاد الأمريكي في أرباع السنة الباقية تراجعا تدريجيا في معدل التضخم إلى مستويات محتملة وضعفا في النمو الاقتصادي يبلغ 3 في المائة، وهو معدل يجعل النمو الاقتصادي نموا خاليا من التوترات. غير أن هذا السيناريو يبدو شديد التفاؤل. فمن ناحية يمكن أن يظل معدل التضخم أعلى مما هو مأمول، ولهذا يشير الخبراء والمحللون في البنك المركزي الألماني إلى أن هناك عملية مراجعة للبيانات وفقا لمؤشر بي أيه سي للتضخم، وهو أهم مقياس للتضخم لدى بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي. وتدل التجارب إلى أن المؤشر ينبغي أن يعاد النظر فيه بإضافة0.2 نقطة مئوية، يضاف إلى ذلك أن من المحتمل أن تؤدي الأوضاع في الشرق الأوسط إلى زيادة ملحوظة أخرى في أسعار الطاقة . كما أن بنك الاحتياط الفيدرالي قد يجد نفسه مضطرا أيضا لانتهاج سياسة نقدية أكثر تشددا مما هو متوقع .
ومن ناحية ثانية يبدو أن ثمة الكثير من التمنيات في تنبؤات بيرنانكيه للنمو الاقتصادي، حيث إن المؤشرات الأخيرة للدورة الاقتصادية تشير كلها تقريبا إلى تباطؤ واضح في الدورة، فمثلا بلغ معدل النمو السنوي للأرقام القياسية للمؤشرات المبكرة 2 في المائة فقط. ووفقا لبيانات المحللين لدى مؤسسة إم إم فاربورج فإن هذا يعتبر مؤشرا جيدا يشي بأن النمو سيكون في مستوى مساو لذلك. يضاف إلى ذلك أن ثمة برودا ملحوظا في سوق العقارات الأمريكية الذي يشكل محركا للانتعاش الأمريكي الأخير، بحيث وصل المؤشر الذي يقيس المزاج السائد في الصناعات الإنشائية إلى أدنى مستوياته مند عام 1991 .
على هذه الخلفية اختزل المحللون التقديرات بشأن نمو أرباح الشركات الأمريكية في الربع الثالث من العام الحالي من 12 في المائة للفترة المقابلة من العام الماضي إلى 10 في المائة فقط. أما إذا تراجع معدل نمو الاقتصاد في العام القادم إلى أقل من 3 في المائة فإن أرباح الشركات لن تزداد بأكثر من 6 إلى 8 في المائة. وهذا سيشكل عندئذ عبئاً على أسواق الأسهم، ولهذا تقول مؤسسة إم إم فاربورج بإنه لا يلوح في الأفق حتى الآن ما يبشر بإمكانية تعافي أسعار الأسهم. ومن زاوية مختلفة توصل محللو بنك جولدمان زاكس إلى نتيجة مماثلة، حيث أشاروا إلى أن حصة الأرباح في الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في الربع الأول من السنة قد ارتفع إلى مستوى تاريخي. وعلى هذه الخلفية التي رافقتها بعض المؤشرات على تزايد الضغوط الائتمانية، فليس من المحتمل أن تحقق هوامش الربح مزيدا من النمو في العام القادم.
إن تباطؤ النمو الاقتصادي في أمريكا ومحدودية حركة الأسعار في أسواق الأسهم الأمريكية لن تمر بسلام على بقية مناطق العالم، وذلك وفقا للمقولة الدارجة: إذا سعلت بورصة وول ستريت أصيبت بورصات أوروبا بالالتهاب الرئوي . وتبين دراسة أجراها خبراء بنك جولدمان زاكس أن الارتباط بين وول ستريت وأسواق الأسهم الأوروبية تكون في ذروتها عندما يعمل الاقتصاد العالمي بما يفوق طاقته، ففي مثل هده المرحلة من مراحل الدورة الاقتصادية بالضبط يمكن للاقتصاد العالمي أن يخرج عن مساره الطبيعي. وتخلص الدراسة إلى الاستنتاج بأن الأسواق في أوروبا تتأثر بما يجري في وول ستريت خصوصا في حالات هبوط الأسعار وهو ما يستدعي من المستثمرين في الأسواق الأوروبية أن يتابعوا عن كثب ما يجري في وول ستريت.
وكما علم أخيرا فإن الاقتصاد الصيني قد نما في الربع الثاني بمعدل سنوي قدره 11.3 في المائة. بل إن معدل نمو الاستثمارات العقارية قد بلغ في الفترة التي انقضت من العام الحالي 31 في المائة، كما يقول المحللون لدى بنك بي إن بي باريبا. وهذا يزيد بالطبع من قلق الحكومة الصينية لأنه لا بد من التخلص من الطاقات الزائدة، التي ستظهر في الحسابات مستقبلا في خانة الهالك بكل ما يعنيه ذلك من خسائر. ولهذا فقد رفع البنك المركزي الصيني الحد الأدنى لنسبة الاحتياطي الإجباري للبنوك التجارية، للمرة الثانية خلال شهرين من 8 إلى 5ر8 في المائة، مما يقلص من قدرة البنوك التجارية على منح التسهيلات الائتمانية.
وكما يقول بنك بي إن بي باريبا فإن جهود الصين للتخفيف من غلواء نمو اقتصادها سيكون لها نتائج بعيدة المدى - مثلا بالنسبة للطلب على المواد الخام، وعلى أسهم شركات المواد الخام، وعلى عملات الدول المنتجة للمواد الخام. يضاف إلى ذلك أنه بات واضحا أن الصين لن تشتري في المستقبل كميات كبيرة من الدولارات وإنما ستعيد بعض ما لديها منها إلى الأسواق المالية، كما حدث أخيرا. وستسهم الصين أيضا، بعد البنوك المركزية في أمريكا وأوروبا واليابان، في تقليص السيولة وهو ما سيضر بالمواد الخام وبالأسهم. وقد أعيد تقييم اليوان الصيني إيجابيا بعد ما صدر عن بكين من تصريحات بحيث أصبح سعر الدولار يساوي 982ر7 يوان وهو أقل سعر يدفعه الصينيون للدولار مند عام 1993.