صيغ وقفية مبتكرة لدعم البحث العلمي
يعتبر النهوض بالبحث العلمي من التحديات التي تواجه الدول العربية والإسلامية بشكل عام. وتتعالى الدعوات المطالبة بتفعيل دور الوقف الإسلامي في دعم البحث العلمي. ويرتكز المطالبون إلى أن دعم هذا المجال يعد من المصالح الشرعية التي من شأنها الارتقاء بالأمة
تشير الدراسات المتخصصة إلى أن التحدي الرئيس أمام مديري الأصول الإسلامية هو الابتكار، فلا يزال قطاع الصناديق الإسلامية في مرحلة التطور، إذ إنه استطاع الاستفادة من 11 في المئة فقط من حجم الثروات المالية التي تقدر بنحو 480 مليار دولار. تتعلق معظم المنتجات بأسواق الأسهم البسيطة، وهناك حاجة ملحة إلى الابتكار والتنويع باتجاه فئات أصول جديدة.
وفي إطار البحث عن الابتكار في الوقف الإسلامي ظهرت دراسة مهمة بعنوان "دور الوقف في دعم البحث العلمي: دراسة فقهية" للدكتور عبد الله بن محمد العمراني، يؤكد فيها أن هناك عديدا من صور الوقف المباشر على البحث العلمي. أول أنواع هذا الوقف هو وقف الكتب، وهو يعد بمثابة حبس أصل لينتفع بالاطلاع عليه، حيث إن مما يبقى ويدوم حتى وإن كان منقولاً غير ثابت. ومن مزايا هذا النوع أنه المشاركة فيه متيسرة لأغلبية المسلمين نظراً لقلة تكلفة الكتب، وسهولة الحصول عليها ونشرها.
وهناك طرق عديدة يمكن من خلالها استغلال هذا النوع من الوقف كأن يشتري الواقف مجموعة من الكتب المتخصصة في مجال ما، ويقوم بوقفها ووضعها في المكتبات العامة ومكتبات الجامعات. أو أن تعد قائمة بالكتب المهمة التي يحتاج إليها الباحثون، ويتم شراؤها بالتنسيق مع الجهات المختصة. وكذلك من الممكن أن يتم تحصيل اشتراك دوري من الراغبين في الوقف لهذا الغرض. وأخيراً فإن مؤلفي الكتب يمكنهم أن يوقفوا حقوق الطبع والنشر لمؤلفاتهم لمن أراد نشرها مجاناً.
وثاني الأنواع وقف البرامج الحاسوبية، فقد أصبح لاستخدام تقنيات الحاسب دور غاية في الأهمية في مجال البحث العلمي نظراً لما توفره من وقت وتكلفة فضلاً عن سهولة الاستخدام. ويمكن لراغب الوقف أن يقوم بشراء نسخ من البرامج العلمية، ويقدمها إلى المكتبات العامة أو مراكز الأبحاث أو مباشرة إلى الباحثين والمهتمين بمجالها.
وعلى صعيد متصل فإنه يمكن وقف الأجهزة مثل أجهزة الحاسب، أو التجهيزات التي تحتاج إليها المكتبات، أو المعامل المتخصصة، أو الأدوات والأجهزة التي يحتاج إليها الباحثون كل في مجاله.
وأخيراً هناك وقف المكتبات: وأهمية هذا النوع أنه يحيي مشاركة الأفراد والقطاع الخاص في وقف المكتبات. وتعد المكتبات الوقفية في السعودية من النماذج المضيئة لهذه الأوقاف في التاريخ الإسلامي. وفي هذا النوع من الوقف يقوم الواقف ببناء المكتبة وتزويدها بالكتب التي يحتاج إليها الباحث في التخصص الذي يختاره الواقف. وإضافة إلى الكتب تضم المكتبة الموقوفة قواعد بيانات ومحركات بحث تعم بها الفائدة، كما هو الحال في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات، ومكتبة الملك فهد الوطنية، ومكتبة الملك عبد العزيز العامة، ومكتبات الجامعات السعودية.
ويقترح د. العمراني التوعية بأهمية المشاركة في إنشاء المكتبات الوقفية. ومتابعة كل جديد للارتقاء بالخدمات التي تقدمها المكتبة الوقفية، مثل توفير الإصدارات الحديثة من الكتب والموسوعات وتطوير الآليات المناسبة. وكذلك التواصل مع المكتبات العامة المحلية والعالمية.
مجالات صرف ريع الوقف للبحث العلمي
ويعرض الباحث أبرز المجالات والكيانات البحثية التي يمكن صرف ريع الأوقاف فيها لخدمة البحث العلمي. أول تلك المجالات هو مراكز البحوث التي تفتقر في أغلبية الدول الإسلامية إلى الموارد المالية اللازمة لاستمرارها وأداء مهامها في إنجاز البحث العلمي الذي يتطلب كمية من المصروفات. من هذه المصروفات ما يتم إنفاقه على الجهاز الإداري، وهي مصروفات ـــ بطبيعتها ـــ دائمة وليست مؤقتة. ومن ثم فإن الأنسب لتلبيتها هو الدعم الثابت المستمر من ريع الأوقاف المخصصة لدعم البحث العلمي وليس التبرعات أو المخصصات المقطوعة. ومن الناحية الفقهية فلا حرج من الصرف على الجهاز الإداري من ريع الوقف المخصص لدعم البحث العلمي طالما لم ينص الواقف على غير ذلك.
#2#
وتعد مكافآت الباحثين من البنود المهمة في المصروفات. ويجوز الصرف من الوقف لطلاب العلم والباحثين، وفي المقابل يجوز للباحث أن يحصل على تلك المكافآت. والأمر نفسه بالنسبة لرواتب الباحثين الدائمين في المركز البحثي، ذلك أن الباحث قد فرغ منفعته ووقته وفق عقد الإجارة على العمل الموقع مع المركز. ويجوز كذلك الإنفاق من ريع الوقف المخصص للبحث العلمي على مكافآت اللجان العلمية، والتحكيم العلمي.
وتعد الموسوعات العلمية من مصارف أوقاف البحث العلمي لما لها من فوائد تعود على الباحثين. ومن أمثلة هذه الموسوعات: الموسوعة الفقهية التي تشرف عليها وزارة الأوقاف في الكويت، التي أصدرت ما يزيد على خمسين مجلداً. ومنها موسوعة مجمع الفقه الإسلامي التي أعدتها شركة حرف للتقنية، وقامت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية بشراء نسبة كبيرة من هذه الموسوعة وإتاحتها مجاناً على الموقع الذي تشرف عليه الوزارة. وتعد الأوقاف من أبرز الموارد لإنجاز الموسوعات التي تعد من المشاريع العلمية الرائدة. وذلك لما يتسم به الوقف من الديمومة والاستمرارية التي يحتاج إليها لتغطية النفقات التشغيلية. وتعد كراسي البحث مصرفاً مهما من مصارف أوقاف البحث العلمي. ويعرف الكرسي العلمي بأنه منحة نقدية أو عينية، دائمة أو مؤقتة، يتبرع بها فرد أو شخصية اعتبارية، لتمويل برنامج بحثي أو أكاديمي في الجامعة، ويعين فيه أحد الأساتذة المتخصصين المشهود لهم بالتميز العلمي والخبرة الرائدة والسمعة الدولية. والكراسي العلمية تنقسم إلى: كراسي وقفية: وهي التي يتم تمويلها عن طريق الأوقاف العينية الدائمة للجامعة. وكراسي مؤقتة: وهي التي يتم تمويلها عن طريق التبرعات والمنح والوصايا لفترة زمنية محددة. ويعدد الباحث الموضوعات الفقهية التي يمكن أن تدعم بكراسي بحثية ومنها: كرسي التمويل الإسلامي للأفراد، وكرسي التمويل الإسلامي للشركات، وكرسي تمويل رأس المال العامل، وكرسي صيغ الاستثمار الإسلامي الآمن، وكرسي الصكوك الإسلامية، وكرسي الرقابة الشرعية، وكرسي التحوط في الأسواق المالية وغيرها.
ويقترح د. العمراني في دراسته أن تدعم الأوقاف التوسع في إنشاء مراكز التميز التي ظهرت أخيراً في الجامعات السعودية. وكذلك دعم مراكز تهتم بتأهيل الباحثين مهارياً وإدارياً. وإنشاء مراكز البيئة الابتكارية في العلوم الشرعية من خلال ريع أوقاف البحث العلمي.
صيغ إنشاء الوقف على البحث العلمي
وبالنسبة لصيغ إنشاء الأوقاف على البحث العلمي فإن هناك صوراً عديدة تلائم هذا الغرض ومنها:
وقف العقار كالأراضي والمزارع والمباني التجارة والسكنية. وهناك وقف المنقول الذي يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه مثل الأجهزة والكتب وغيرهما.
أما وقف النقود في المحافظ الاستثمارية فقد شهد خلافاً فقهياً. والراجح هو جواز وقف النقود ما دامت تحقق مصلحة شرعية. ويمكن وقف الأسهم في الشركات المساهمة من قبيل وقف المشاع. وهو أمر مشروع مع مراعاة الضوابط الشرعية والاقتصادية في شراء السهم. والصيغة المناسبة للاستثمار بشراء الأسهم الوقفية هو بصيغة الاستثمار الدائم للحصول على ريع السهم، ويراعى في ذلك اختيار أسهم الشركات الكبيرة التي توزع عوائد دورية جيدة وبشكل منتظم. وهناك صيغ وقف بالإفادة من عقد الاستصناع، والوقف من خلال المشاركة، والمشاركة المتناقصة.