الصين.. تنين بلا نيران لا ينبغي الخوف منه
يثير التنين الصيني أعصاب الكثيرين : فالبرلمانيون يتجادلون فيما إذا كان من المناسب بيع إحدى شركات بلادهم للصين، ورؤساء الحكومات يدلون بتصريحات بينما يعبر المديرون والعاملون عما ينتابهم من مشاعر القلق. ففي كل محاولة يقوم بها الصينيون لشراء شركة من الشركات في الولايات المتحدة أو في أوروبا يظهر من جديد شبح الفزع من " التنين الأصفر" مع أن خبرا صغيرا انتشر أخيرا برهن وبما لا يدع مجالا للشك أن مثل هذا التنين ليس له حتى الآن نيران يقذفها على أحد. والخبر يقول إن شركة (تي سي إل) وهي أكبر منتج لأجهزة التلفزيون في العالم و مقرها مدينة تشينجن جنوب الصين تواجه حاليا خسائر باهظة.
(تي سي إل) إن هذه الأحرف ترمز إلى اسم أكبر شركة صينية في مجال إنتاج الإلكترونيات الاستهلاكية، وقد سبق لها أن استحوذت على أعمال إنتاج أجهزة التلفزيون من شركة طومسون وإنتاج أجهزة الهواتف الجوالة من شركة الكاتيل الفرنسيتين، وهي تبيع الآن علاماتها المسجلة: (تي سي إل) و(طومسون) و(آر سي أيه) في جميع أرجاء الكرة الأرضية. غير أن الصينيين فاتهم الانتباه إلى السرعة التي يتزايد بها الطلب على الشاشات المسطحة لأجهزة التلفزيون، وهو ما أدى إلى تخلفهم عن الاستجابة لمطالب السوق.
إن من يرتكب مثل هذا الخطأ الاستراتيجي القاتل لن تسعفه ضآلة أجور العمال في إنقاذ نفسه، كما أن جهود الشركات الصينية لشراء علامات تجارية وموارد ومعارف تقنية لم تتمخض حتى الآن إلا عن خسائر أو عن انقطاع هذه الجهود في اللحظات الأخيرة. فعملية الاستحواذ المثيرة على قسم الحواسيب الشخصية لشركة (آي بي إم) من قبل شركة (لينوفو) الصينية قد أدت إلى مشاحنات داخل إدارة الشركة وهو الأمر الذي انتهى بطرد رئيس مجلس الإدارة من منصبه. وعندما أرادت مجموعة شركات (دالونج) بالتعاون مع شركة (فيرتشايلد دورنييه) الشروع في إنتاج الطائرات باءت هذه المحاولة بالفشل الذريع. وبالمثل أرادت شركة (تي سي إل) إقامة شراكة مع شركة الكاتيل غير أن الفرنسيين لم يلبثوا إلا أن انسحبوا من العملية برمتها بعد بضعة أشهر، بينما بقيت شركة (تي سي إل) متمسكة بإنتاج الهواتف الجوالة. كما سعى بنك الصين للإعمار بجدية في شراء بنك (بير ستيرنز) الأمريكي بما يقارب أربعة مليارات دولار وذلك بدلا من أن يركز على إعادة هيكلة عملياته. وقد تعثرت أيضا محاولات شركة هاير للحصول على ماركات (مايتاج) و(هوفر) الأمريكية بسبب صعوبات كانت تهدد عملية الاندماج. وما زالت شركتا (سايك) و(نانجينج) في حالة تنازع على الحصول على حق إنتاج سيارة روفر على الرغم من الشكوك التي تحيط بالعملية كلها.
إن هناك العديد من الأسباب لهذه الصعوبات التي تواجه طريق الصينيين إلى الاقتصاد العالمي. فالصينيون لا يقبلون حتى الآن إلا على شراء الشركات التي غالبا ما تكون في حالة من العجز والتي عجزت الإدارات في أمريكا أو في أوروبا عن إعادة العافية إليها رغم الجهود المضنية التي بذلتها في هذا السبيل. إن ما هو متاح من القدرات الإدارية والخبرة الأجنبية والعنفوان المالي لدى الصينيين لا يكفي لإحداث التحول المطلوب نحو الأفضل. فهم يسمحون لأنفسهم بأن يلهثوا وراء أسماء الماركات الجذابة ويدفعون مقابل ذلك أثمانا مرتفعة. كما أن العديد من رجال الأعمال الشباب لم يتمكنوا بعد من تكوين رؤوس الأموال الخاصة بهم ما يدفعهم للاستدانة بكثافة. وفي النهاية فهم لا يحصلون إلا على تقنيات عتيقة أكل عليها الدهر وشرب أو على استراتيجيات واهية ليس لها من أساس. وهذا هو ما يدفع أفضل العاملين في هذه الشركات إلى الاستقالة من وظائفهم. كما أن سيادة لغة وثقافة غير مألوفتين، ونقص في الحماية القانونية وخلفيات المشترين الملتبسة. إن كل ذلك من شأنه أن يفزع الراغبين في البيع. إن عمليات الاستحواذ وما يتبعها من عمليات الاندماج تمثل بالنسبة لأي شركة في العالم مرحلة غاية في الصعوبة غير أنها بالنسبة للصينيين ومحاولاتهم الاستحواذية في الغرب، أصعب بكثير.
أما فيما يتعلق بالموقف في السوق العالمية فيميز المديرون الصينيون أنفسهم عن منافسيهم الهنود، حيث يغلب الطابع الأسري على المشروعات كما في صناعة السيارات أو في فرع الصناعات الدوائية. إن المديرين الهنود ينطقون باللغة الاقتصادية العالمية أي اللغة الإنجليزية وغالبا ما يكونون قد درسوا في أحسن الجامعات الأمريكية ويعرفون على وجه الدقة متى ولماذا يقدمون على أي عملية استحواذ.
وفي الوقت نفسه تزداد الضغوط على الصينيين للتعامل مع العالم الخارجي، وهم يعرفون أنهم في أمس الحاجة إلى سد الفجوة في جميع قطاعات الحياة الاقتصادية، وهم يحسون يوميا القوة الهائلة التي يتغلغل بها الغرب في وطنهم وينتزع منهم حصصهم في السوق. كما أن بكين تدفع شركات القطاع العام للتوسع في العالم الخارجي، خصوصا أنها حققت أرباحا بالمليارات في البورصات، التي تبحث لنفسها عن مجالات الاستثمار.
إن من المنطقي أن تسارع الشركات الصينية لشراء شركات أجنبية، خصوصا تلك التي تتعامل في المواد الخام، من أجل أن تؤمن لنفسها المواد الخام الضرورية. ويبدو أن عمليات الاندماج لا تلعب بالنسبة لها إلا دورا ثانويا للغاية. كما يبدو بالنسبة لغالبية الشركات أن من الأربح لها أن تضرب صفحا في المرحلة الراهنة عن عمليات الاستحواذ الكبرى، والسير بدلا من ذلك بتؤدة وخطوة خطوة. ولهذا أقامت الشركات الصينية روابط تعاون مع شركات في بقية أنحاء آسيا، عبر الشبكة الصينية، حيث يمكنها التحدث بلغة الصفوة من رجال الأعمال وإقامة المشروعات ذات الحجم المناسب، إن محاولات التغلغل في آسيا والبلدان العربية ثم في أوروبا ليس بالأمر الهين، ولكنه قادر على تجنيبها خطر السقوط العظيم. فهذا هو الطريق الذي تسير عليه بنجاح، على الأقل، شركات الدولة في سنغافورة.
لا جدال في أن على الشركات الصينية أن تنشط خارج حدود الصين، ولا شك أن مديريها طموحون وقادرون على التعلم، ولهذا فإن عدد عمليات الاستحواذ من قبل الصين ستتواصل وستزداد إتقانا من حالة إلى حالة. ومع مرور الوقت لن يقنع مديرو الشركات الصينية بابتلاع شركات من الدرجة الثانية. إن الجيل الأول، الذي أتيحت له فرصة اكتساب خبرات أجنبية، يحتل حاليا المراكز القيادية الأولى. وما يبقى هو الصعوبات البنيوية للصين. إن التنين الصيني ما زال طري العود وغير قادر بعد على إطلاق النيران من فمه، ولكن خلال بضع سنوات سيتعلم ذلك بالتأكيد.