ماسترخت خليجية قبل العملة الموحدة

ماسترخت خليجية قبل العملة الموحدة

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن العملة الموحدة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربي، وهل تأخر إصدارها؟ ولماذا؟ وكثر لوم مجلس التعاون الخليجي على البطء في إصدار العملة الموحدة فهل هي فعلا متأخرة؟ وهل المصلحة بالسرعة فيها؟ ليس دفاعا عن مجلس التعاون القول بعكس ذلك، بل هو الواقع المعاش لأن مجلس التعاون، عكس الانطباع السائد عنه، ليس متأخرا في الشأن الاقتصادي والمالي والسعي إلى التكامل الاقتصادي والوحدة المالية والنقدية. ورغم إدراكي أن هذا الانطباع والتساؤل لدى العامة هو من منطلق حرصهم على مجلس التعاون وحرصهم على التوحد والتكتل في عالم لا يحترم إلا القوة ولا يرى غضاضة في استعمال الضغوط والمساومات وأخذ ما ليس له حق فيه، إذا لم تكن أمامه قوة اقتصادية رادعة تفاوض بشكل جماعي وتحصل على فوائد جراء استعراض قوتها الاقتصادية واستخدام مشترياتها الكبيرة الجماعية وأسواقها الموسعة حين تصبح سوقا واحدة وشعوبها يدا واحدة وقلوبها وجيوبها يساند بعضها بعضا استخدام كل ذلك للدفاع عن مصالح شعوبها والحصول على شروط تجارية واقتصادية تزيد من مستوى التنمية فيها، وتسهم في تحسين مستوى المعيشة ومحاربة الفقر والبطالة وتعزيز النمو والاستقرار.
والحقيقة إننا يجب قبل الحكم على تجربة مجلس التعاون وإنجازاته أن نعرف ما المراحل التي قطعتها المجالس أو التجمعات المشابهة، وأقرب مثال على ذلك هو الاتحاد الأوروبي الذي يشير إليه الكثير بالتجربة الناجحة والقدوة التي يجب أن يقلدها مجلس التعاون، ولكنهم يتجاهلون أن الاتحاد الأوروبي قد بدأت مسيرته في معاهدة روما عام 1957م وليس بالأمس القريب، وسار على استراتيجية متدرجة ومر بأوقات عصيبة كادت تودي به لولا إصرار حكوماته وشعوبه على نجاح تجربته وتقديم التضحيات الاقتصادية والسياسية من أجل ذلك، بينما مجلس التعاون لدول الخليج العربي لم تبدأ فكرته وليست مسيرته إلا في بداية عام 1981م ولا تزال هذه المسيرة تواجه الكثير من العقبات الصغيرة التي يجب ألا تكبر في عيون البعض، ويجب ألا تغيب عن الأنظار والعقول الفوائد الكبيرة من تحقيق التكامل الاقتصادي والتجاري والتنظيمي وأخيرا المالي وليس آخرا الاتحاد المالي النقدي الذي يجب أن يكون مسك الختام وليس بداية الطريق. وللأسف يتداول الكثير من غير المختصين هذه الأيام موضوع العملة الموحدة، ولماذا تأخرت وما الأسباب؟ دون معرفة أن هذا الموضوع هو آخر المطاف ويجب أن يسبقه اتفاق كامل في النواحي الاقتصادية والمالية حتى تتحقق الوحدة الكاملة. ومن يطالب بسرعة اعتماد العملة الموحدة يضر بمصلحة مجلس التعاون ودوله، ويهدد هذه المسيرة الخيرة بقصد أو عن جهل، فالوحدة النقدية يجب أن تكون نهاية السلم وليس بدايته. ويجب ألا نطلب من مجلس التعاون أن يجري قبل أن يمشي أو أن يقفز إلى القمة قبل الصعود المتدرج. فطبيعة الاتحادات المماثلة تدرجت من سوق حرة إلى اتحاد جمركي إلى سوق مشتركة ثم اتحاد مالي ثم أخيرا عملة موحدة بعد وضع اتفاقات محددة في المجالات المختلفة، حيث إن هذه أسس ضرورية وخطوات أساسية نحو التكامل والوحدة الاقتصادية والمالية والاندماج الكامل بين هذه الدول لتحقيق المصالح العليا لشعوبها، وأن القفز فوق هذه المراحل مضر بل مدمر للأهداف السامية المتوخاة.
عندما أرادت دول الاتحاد الأوروبي مثلا اعتماد الاتحاد المالي النقدي اتفقت على أمور مالية ونقدية محددة في معاهد سميت معاهدة ماسترخت، وهي مدينة هولندية صغيرة تم فيها توقيع المعاهدة المعروفة. وهذه المعاهدة حددت الأمور المطلوبة للاتحاد النقدي مثل تثبيت العملات أولا لمدة معينة وعدم زيادة عجز الميزانية على 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي وعدم زيادة التضخم على نسبة 2 في المائة عن أقل دولة (كانت ألمانيا) وكذلك ألا تزيد نسبة الدين العام على 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وألا تزيد أسعار الفائدة على نسبة من أقل دولة في الاتحاد (ألمانيا في حينه) هذه الضوابط وضعت لحفظ حقوق الجميع، إضافة إلى اعتماد سياسات مالية ونقدية متوازنة حتى لا تستفيد دولة على حساب أخرى، ويصبح الاتحاد مفيدا للجميع ومحققا فائدة الجميع حتى أصبحت معايير هذه الاتفاقية علامات تدل على حسن إدارة الاقتصاد وسوق المال والتطور والنمو، وتجعل الجميع يتنافسون على أسس متساوية وعادلة، وأن تساعد الدول بعضها بعضا بشكل مدروس ومتفق عليه لتنمو تجارتها البينية، وتستفيد صناعتها وزراعتها وخدماتها من سوق كبيرة منظمة ومفتوحة للجميع وتدافع عن مصالح الجميع أمام العالم الآخر، وأصبح الاتحاد ناديا مرموقا تحاول الدول حوله الانضمام إليه وتحاول الدول البعيدة التقرب منه.
إن من يطالبون بالسرعة في الأمور النقدية قبل أن توقع معاهدة ماسترخت خليجية يضرون بأنفسهم وبمؤسستهم الوليدة بدلا أن يشجعوها ويأخذون بيدها في استراتيجية متدرجة ومترابطة تتكامل فيها الأسواق وتتوحد فيها التوجهات لخير الخليج وأهله وتحقيق الأهداف الخيرة لقادته الذين يواجهون هذه الصعاب ويحتاجون إلى تفهم ودعم الجميع لما فيه خير الجميع.
والله الموفق

عضو مجلس الشورى

الأكثر قراءة