ديمقراطية.. بدون شفافية!

الوثائق التي نشرها ''ويكيليكس'' أثارت انزعاج الدول الديمقراطية، بالذات الولايات المتحدة الأمريكية، وأدت حالة الانزعاج والهلع إلى اعتقال مؤسس الموقع جوليان أسانج في بريطانيا. وهذه الحالة من الغضب تكشف خللا أخلاقيا جديدا في الدول التي تدّعي الديمقراطية والشفافية، وتجند مؤسساتها الرسمية والمدنية للدفاع عن الديمقراطية في العالم، بل تشن الحروب باسم الديمقراطية والشفافية!!
هذا الانزعاج يدعو للغرابة فعلا، فالمفروض أن الدول الديمقراطية تمارس الحكم الصالح وترعى حقوق الإنسان و(تلعب على المكشوف)، لأن المبادئ والأخلاقيات لا تحتمل المساومات والتنازلات والمؤامرات وشن الحروب وترتيب الاغتيالات للزعامات والشعوب، فإذا كانت الدول الديمقراطية تدير شؤونها الداخلية وعلاقاتها الدولية ومصالحها بآليات ومبادئ النزاهة والشفافية واحترام حقوق الآخرين.. إذن لماذا الانزعاج؟!
كشف الوثائق وأيضا حالة الانزعاج التي نشهدها تؤسسان أرضية جديدة لفهم المحركات والمؤثرات الظاهرة والخفية للسياسة الدولية، وأقول جديدة لأنه حتى كشف هذه الوثائق كان الحديث عن (نظرية المؤامرة) في إدارة الشؤون الدولية يعد خطيئة ورجعية فكرية وثقافية، وكان من لزوم الوجاهة الثقافية رفض نظرية المؤامرة وإنكارها مثلما يتبرأ الإنسان من خطيئته، ولا يؤمن بنظرية المؤامرة ويجهر بها إلا فئتان:
الفئة الأولى: هم النخبة الفكرية عالية التأهيل في الفكر السياسي والتجربة التاريخية الإنسانية والتي تقرأ ما خلف الأحداث، هذه الفئة لا تتورع ولا تخجل من طرح نظرية المؤامرة من باب أن المؤامرة جزء من حركة التاريخ وتداول الأحداث، ووعيها يقف عند هذا الحد، أي أن التاريخ ليس كله مؤامرة. أما الفئة الثانية التي تؤمن بوجود مؤامرة في علاقات الدول والشعوب فهي فئة بسطاء الناس الذين يدركون أن الحياة كفاح وصراع بين قوى الخير والشر، ومن طبائع الأمور أن القوي يأخذ الضعيف .. وهكذا يتعايشون مع هذا الإدراك ويستخدمونه ضمن أدواتهم لفهم العالم والأحداث حولهم.
وما كشفته الوثائق من معلومات تضمنتها تقارير الدبلوماسيين والجواسيس وكُتّاب التقارير أغلبها يدعم ذهنية التآمر والسباق على المصالح بأي ثمن، فكل دولة لها أطماعها ومصالحها المشروعة وغير المشروعة، فالعمل السياسي والدبلوماسي والاستخباراتي للدولة هدفه تحقيق مصالحها، والدول إذا لم تحقق مصالحها بالأساليب والسبل المعروفة والمكشوفة، فإنها سوف تسعى إلى (المكيدة والمؤامرة).. هكذا يكشف تاريخ التجربة الإنسانية.
عموما، سواء كان كشف الوثائق هو عملية استخباراتية احترافية معقدة تسعى لتحقيق أهداف قريبة أو بعيدة للدول العظمى، أو هو جاء ثمرة نزعة أخلاقية لدى جوليان أسانج والمتعاطفين معه، وهدفهم هو كشف الحقائق عبر هذه اللعبة الخطرة، في كلتا الحالتين المهم أنها أدخلت النظم الديمقراطية في أزمة مع الذات، أزمة أخلاقية جديدة بعد فضيحة التلاعب بأسواق المال والبنوك، فإذا كانت الدول الديمقراطية تؤمن بالعدالة الإنسانية كما تدعي وتدعم حق الشعوب في تقرير المصير وتنادي بأمن الإنسان، فلماذا الخوف والهلع؟
إنهم في أزمة .. وصدق من قال: إن حبل الكذب قصير!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي