مصر تقود عمليات التحديث بخطى متسارعة.. لكن ثمار الإصلاح ما زالت غير ملموسة
تصارع الحكومة المصرية بخطط إعادة هيكلة شجاعة مشاكل البنية والأنظمة، التي قام عليها اقتصاد حكومي على مدار قرن ونصف القرن. وعلى ما يبدو فإن النمو الاقتصادي في تقّدم مستمر، والاستثمارات الأجنبية المباشرة تتدفّق إلى الدولة بصورة ملفتة. ولكن ما تزال ثمار خطط إعادة الهيكلة غير ملموسة بالنسبة لعدد كبير من السكّان.
وعلى ما يبدو فإن القطاع الخاص ينعم بالانتعاش ، أولاً لأنه يمكن للمرء أن يجري حواراً جاداً مع الحكومة، وينصت الوزراء بكل اهتمام للشركة، هذا ما يقوله محمد المهدي الاقتصاد المصري، مدير مجموعة سيمينز الألمانية في مصر. ويضيف أن المناخ الاقتصادي جيد جداً هنا، ولم يسبق أن عاشت مصر هذا المناخ الاقتصادي الجيّد من قبل. والوقت كفيل بإثبات قدرة رئيس الوزراء أحمد نظيف علي الوفاء بوعوده بعد توليه رئاسة الحكومة لأول مرة في تموز (يوليو) عام 2004.
في فترة أقل من العامين بدأت حكومة نظيف الطريق حيث عملت على إعادة هيكلة نظام الضرائب بصورة حاسمة وكذلك التجارة الخارجية، وحاورت المستثمرين الأجانب لزيادة الاستثمارات المباشرة في مصر ودفعت بعمليات التخصيص المؤجلة. وما تزال توجد الكثير من خطط إعادة الهيكلة بصدد إنجازها. ويقول محمد المهدي إنه لا بد من العمل على تقليص المعونات المالية الباهظة، وتحسين البنية التحتية، وكذلك أنظمة التربية والتعليم، والصحة، ولابد كذلك من العمل على تخفيف الإجراءات الحسابية لتقديرات التعرفة الجمركية.
ويمكن وصف المهندس رشيد محمد رشيد وزير الصناعة والتجارة المصري بأنه هو القوة المحرّكة الكامنة وراء عمليات الإصلاح هذه وكان رشيد يعمل من قبل مديرا لإحدى شركات تصنيع السلع الاستهلاكية الدولية، قبل تسلّمه منصبه الوزاري في الحكومة. ويطمح رشيد في جعل الاقتصاد المصري قادرا تنافسياً. وبلا شك أن النتائج أصبحت ملحوظة فعلياً، والنمو الاقتصادي الإجمالي في تقدّم مستمر: وبمعدل محتمل من النمو الاقتصادي لهذا العام يُقدّر بنحو 5.5 في المائة، وبنحو 6 في المائة للعام المقبل، فإن مصر بدأت بالخروج من مرحلة الكساد التي عاشت فيها طويلاً. وبنمو اقتصادي بنحو 6 في المائة، من المفترض أن تتحقق هذا العام نحو 750 ألف فرصة عمل جديدة، وسيتم امتصاص كافة المتدفقين الجدد تقريباً إلى سوق العمل ، كما تأمل الحكومة.
ولكن لم يشعر السكان بالثمار الملموسة الإيجابية لخطط إعادة الهيكلة السياسية، والنمو الاقتصادي حتى الآن، حيث لم تتحقق بعد الكثير من فرص العمل الجديدة، وتأسف هناء خير الدين، رئيسة مؤسسة الأبحاث الاقتصادية المصرية الرائدة - ECES، بأن المعدلات لن تتقدّم أكثر على الأقل. ولا تعمل الحكومة على توظيف أحد بعد في وظائف القطاع العام، ولكن على هذا النحو يبقى حجم الفقر كما هو دون تغيّر. ما يزيد على 70 في المائة من المصريين عليهم العمل يومياً مقابل ما يقل عن 2 دولار كدخل يومي. وبالإضافة إلى هذا، لاحظت هناء خير الدين، بأن حماسة إعادة الهيكلة لحكومة نظيف بدأت بالفتور. عقب أن بدأت خطط إعادة الهيكلة للحكومة في تموز (يوليو) من عام 2004 بحماسة كبيرة، بعد أن سيطرت من جديد مسائل سياسية جدلية بصورة متزايدة على النقاشات.
إضافة إلى هذا، تشتكي هناء خير الدين، وهي عضوة في مجلس الشعب بأن الحكومة لا تعمل على توضيح سياستها للشعب بصورة كافية، وقليل ما تمنحهم الفرصة للحديث والاستماع إليهم. وتقول هذه الخبيرة الاقتصادية: "على الناس أن يفهموا، ما هي الأشياء التي تخطط لها الحكومة، وكيف تحظى إحدى الشركات الحكومية القائمة على التقييم بضرورة تخصيصها مثلاً". ومن المفترض خلال عام 2006 الجاري، تخصيص بنك الإسكندرية وهو الأصغر من بين البنوك الحكومية الأربعة المعروفة. ولا ترى هناء خير الدين أي مؤشرات على أن بنك مصر الذي اندمج مع بنك القاهرة مع نهاية عام 2005، وكذلك البنك الأهلي سيتم تخصيصهما. وتحافظ البنوك الحكومية الكبرى مجتمعةً على حصة من السوق قدرها 60 في المائة.
لقد كانت خطط إعادة هيكلة نظام الضرائب الحجر الأساسي في سياسة إعادة الهيكلة، التي بدئ في تطبيقها في الأول من كانون الثاني (يناير) من عام 2006 الحالي، حيث خففت هذه السياسة الإجراءات، وحددت مبادئ الضريبة العليا من الدخل لدى ضريبة الربح بنحو 42 في المائة، وضريبة الدخل من نحو 32 في المائة إلى 20 في المائة. وبرغم مبادئ الضريبة المنخفضة، تتقاضى وزارة المالية دخلاً أكثر من أشهر العام الماضي، حيث مع العفو العام في الضرائب، تمكّنت الكثير من المصانع والشركات التشغيلية اللحاق بركب الظلال الاقتصادية. ويمتدح المهدي من مجموعة سيمينز قائلاً: "لقد حققت إعادة الهيكلة في نظام الضرائب تحوّلاً فكرياً". في الماضي، لم يكن إداريو جباية الضرائب يثقون بالقيم الضريبية إلى حدٍ كبير، ولكن الآن تُعتبر الثقة في الطليعة، حيث لا تكمن الحاجة إلى اتخاذ أعداد لا حصر لها من الفحص الضريبي.
ويُعتبر التحدي اللاحق هو العمل على تقليص الدعم المالي الذي تقدمه الحكومة المصرية. فلأول مرة تعمل الحكومة على تقليص حجم الدعم للمواد الغذائية الأساسية مثل الزيت والسكر، ورفعت أسعارها بحذر شديد. والآن على المعونات المالية المخصصة للطاقة أن تنضم إلى هذه القائمة، والتي تكلّف الحكومة نحو 7 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي خاصة ما يتعلق بدعم أسعار المنتجات النفطية.
وتستحوذ خطط إعادة الهيكلة لمصر على الكثير من المدح على الصعيد الدولي فالحكومة تعمل على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، كما لم يسبق لمنطقة النيل أن شهدت هذا القدر من الاستثمارات من قبل. ويرتفع منحنى التدفق بصورة كبيرة من أقل من 1 مليار دولار في العام المالي 2002/2003 والذي بدأ في الأول من تموز (يوليو) إلى ستة مليارات دولار خلال العام المالي الجاري 2005/2006. وهذا ينطبق تقريباً مع الدخل الإجمالي لقطاع السياحة. ويظهر النمو في هذا مميزاً بنحوٍ خاص، أكثر مما هو عليه في الحقيقة، حيث بالكاد كانت تحقق الاستثمارات في قطاع النفط، وصناعة الغاز حتى عام 2004، نحو ملياري دولار، والتي لم يتم تضمينها في الإحصاءات، حسب ما يُقدّر ماكس هيلموت سيميش مفوّض منظمة الاتحاد للاقتصاد الخارجي في القاهرة.
والجديد بالنسبة لبيتر جيوبفريش، المدير العام لغرفة الصناعة والتجارة الألمانية العربية في القاهرة هي مصالح المستثمرين العرب في مصر، فحتى أكبر شركة تطوير في إمارة دبي شركة (إعمار) تستثمر في الوقت الراهن أيضاً في مصر، وقطر تنوي أن تستثمر مشاريع صناعية على المدى الطويل في مصر بما يعادل نحو 20 مليار دولار. وما تزال الشركات الألمانية في هذا على لوائح الانتظار، حسب ما جاء عن جيوبفريش، حيث تنظر الشركات الألمانية بصورة إيجابية إلى السوق المصرية، وتثق بتقدّم أكثر في مشاريع إعادة الهيكلة.
و لاحظت مصر بأنه ليس عليها العمل على التخلّص من قوانين الاستثمارات المتعددة، والعمل على تقليص الضرائب فحسب ولكن العمل على التقدّم بسياسة صناعية أيضاً، لتتمكن من تحقيق فرص العمل، حسب ما ورد عن جيوبفريش. والآن تساهم الصناعة بنحو 20 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي، وقررت الحكومة المصرية قيام سلسلة من الصناعات الاستراتيجية، التي تعِد بمنافع القدرة التنافسية، ومن المفترض أن تحقق فرص عمل جديدة. واحدة من هذه الصناعات هي شركات تصنيع السيارات.
وبهدف إنشاء حقل صناعي لهذا القطاع، عملت غرفة الصناعة والتجارة الألمانية العربية في القاهرة على تأسيس (مركز تحديث الصناعة) التابع للحكومة المصرية وخصصت مجموعة للعمل فيه. ومن المفترض أن يعمل هذا المركز على تشجيع الشركات الألمانية، التي ترغب في الاستثمار في الخارج. ويشهد جيوبفريش على مستقبل واعد لهذا القطاع في مصر. وبالفعل تصدّر بعض شركات الإنتاج الألمانية سلعها حول العالم، على سبيل المثال، قطع غيار المكابح للسيارات، أو أجهزة التبريد. ومن شروط التصدير طبعاً، الجودة والأعداد الكافية من السلعة.
وتنمو التجارة الألمانية المصرية بمعدلات كبيرة حيث يتوقّع جيزبفريش لهذا العام نمواً آخر هذا العام بما يعادل نحو 20 في المائة؛ وبلغت قيمة التقدير الألماني إلى مصر عام 2005 نحو 1.4 مليار يورو. ولكن هذا بالفعل يزيد من حجم الضغط على الميزان التجاري، والذي يتجاوز عجزه مباشرةً نحو 12 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي. ويزداد حجم الاستيراد بسرعة مذهلة، وخاصةً عقب تخفيض التعرفة الجمركية على البضائع المستوردة، ولكن من الناحية الأخرى، ينمو التصدير ببطء شديد فقط. ويُعتبر النفط والغاز أكبر الصناعات التصديرية بحصة تعادل الثلث. وبالفعل تغلق السياحة حصة من العجز المتنامي في الميزان التجاري. ولكن معدلات النمو تصبح أصغر. ففي عام 2004 ارتفع عدد السيّاح نحو 30 في المائة، وفي عام 2005 نحو 9 في المائة فقط. ومن المحتمل أن تكسد حركة السياحة في منطقة سيناء عقب الهجمات على قرية دهب. ويقول سيميش، ولكن من المتوقّع أن تشهد مصر إجمالاً نمواً في أعداد السياح الوافدين إليها.
لكن الخبيرة الاقتصادية هناء خير الدين تقول إنه حتى عندما تكون خطى التقدّم محققة، فلا ينظر إليها أغلب المواطنين في مصر بصورة جدية لأن الحكومة تصب حتى الآن اهتمامها على الاستثمارات لكنها تتجاهل العناصر الاجتماعية. وتقول: "أودّ بالفعل أن أرى خُطى تقدّم حقيقية في قطاعي التربية والتعليم، والصحة". ولا تعمل المدارس الحكومية على تأهيل الطلاب للحياة العملية المهنية، والتأهيل المهني من أسوأ ما يكون. ولكن يمكن للحكومة عن طريق خُطى التقدّم في كلا القطاعين أن تضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد: حيث سيشعر أبسط المواطنين بالازدهار والتقدّم، وسيرتفع حجم الإنتاجية، ولتتمكن من إبعاد الأضواء عن جماعات الإخوان المسلمين، والتي طالما طالبت بخدمات مخّفضة الأسعار في قطاعي التربية والتعليم، والصحة.