الملك يعيد البسمة إلى سوق الأسهم

منذ بداية تراجع سوق الأسهم كتبت مقالين أكدت فيهما على ثقتي بأن السوق يفترض أن تعود للنهوض خلال أسابيع، معتمدا على أن مؤشرات اقتصادنا الكلية لم تغير من حجم السيولة المتوافرة، وفي الوقت نفسه لم يطرأ تحسن كبير على فرص الاستثمار الأخرى لسحب هذه السيولة من سوق الأسهم. لقد كان تراجعا استثنائيا لأسباب تنظيمية. وكنت متيقنا أنه متى ما تم استيعاب أسباب ما حدث، وبدأت خطوات عملية لإعادة الثقة للسوق، فإنها ستسترد حيويتها. لذلك عندما وصلني مساء الإثنين الماضي خبر اهتمام القيادة العليا في البلاد بالمسألة، وأن اتصالات وترتيبات تجرى على مستوى عال وفي طريقها للتنفيذ، شعرت بأن التحسن في الثقة سيعود.

كان انعدام الثقة هو مكمن الداء، وفي استعادتها يكون الشفاء. لا يختلف أحد على حسن نوايا هيئة سوق المال، وإنما الخلاف كان حول تأخر تنفيذ بعض قراراتها، وعدم مناسبة بعضها الآخر. إن أسواق المال لا تتحمل عادة أسلوب الصدمات المفاجئة والمتتالية. وقد رأينا كيف أدى ذلك إلى تدهور السوق إلى الحد الذي أصبح صعبا على المتعاملين توقع الخطوة التالية التي ستقدم عليها الهيئة، مما أدى إلى توترهم وتتابع اختفاء السيولة من السوق. وأخذت الأحداث تتلاحق كتساقط أحجار "الدومينو". حتى أضحى التراجع عميقا ومستمرا، مما ولد ذعرا متصاعدا دفع الكل لمحاولة الخروج. وأصبحت كميات العرض تفوق بمراحل كميات الطلب، الذي أخذ بدوره يختفي تقريبا في نهاية المطاف. وعندئذ لم يعد هناك مَن يستطع تقدير قاع هذا التراجع. وهذا يفسر عدم وجود مشترين على الرغم من أن أسعار السوق اقتربت من مثيلاتها قبل عشرة أشهر. ولو كان حال السوق طبيعيا لمثل ذلك إغراء وأي إغراء للشراء.
في تصوري أن المسألة أكبر مما جرى في سوق الأسهم. كان هناك غياب لسياسة اقتصادية ملائمة تهيئ الاقتصاد ببرامج ومشاريع سريعة تستوعب حجم السيولة الجديدة القادمة من المهجر وكذلك السيولة الأخرى التي تعاظمت مع تحسن عوائد النفط. ظلت الأمور تسير ببطء وروتين الماضي التقليدي، بينما خطر السيولة يتعاظم. وحين لم تجد هذه الأموال الجديدة منفذا لها سوى سوق الأسهم، استقرت فيها. وأضحت مليارات من الأموال تطارد كميات محدودة من الأسهم، لترفع الأسعار بشكل مطرد. ومع استمرار ارتفاع مؤشر السوق العام منذ نحو سنتين وتعاظم المكاسب يوما بعد آخر، أخذت السوق تحت وطأة سحر المكاسب المذهلة وضغط تكاليف المعيشة المتزايدة، تغري مزيدا من الناس للدخول فيها، واندفعت أعداد من الأسر تتصرف بشكل هستيري في أصولها من العقارات أو المجوهرات، وتحويلها إلى مزيد من السيولة ثم حقنها في سوق الأسهم. واكتملت الصورة بقيام البنوك بسكب الزيت على النار بإغراء الناس بطريقة غير مسؤولة على التقدم للحصول على تمويلات شخصية للمضاربة في السوق، ومنها بنوك تدعى أنها إسلامية السلوك والمنهج. وتم لها ذلك من خلال عقود ظالمة حملّت البنوك فيها المقترضين وحدهم المخاطر العالية المعروفة سلفا لمثل هذه الاستخدامات، ومنحت نفسها حق التصرف في الأسهم ببيعها فورا متى انخفضت قيمة المحفظة عن نسبة معينة من قيمتها السوقية. وكان بإمكان السلطات النقدية أن تمنع هذا ابتداء، من خلال سياسة الإقناع الأدبي.
لم تجر هذه الأمور بين ليلة وضحاها، بل جرت خلال فترة ممتدة من الزمن تحت سمع وبصر السلطات النقدية والمالية المسؤولة عن تخطيط وتوجيه سياسات البلاد الاقتصادية نحو الأنشطة الحقيقية المنتجة، لا أنشطة المضاربات التي حولت نشاط الناس إلى ما يشبه العمل في قاعات ضخمة للقمار، صرفهم عن نشاطهم الإنتاجي الحقيقي. وليس فيما أقول أي قدر من المبالغة. فالسيولة الضخمة في اقتصاد لم ترق قاعدته الإنتاجية الحقيقية إلى مستوى مناسب لها، حولها إلى أداة لمضاربة تقترب من القمار. فالمقامر يعرض نفسه لمخاطر عالية غير موجودة في الطبيعة وكذا المضارب. والخطر في هذه المعاملات ليس خطرا طبيعيا محضا
Pure risk يحتمل الخسارة أو بقاء الأمور على حالها، وإنما هو خطر قماري Speculative risk لا يحتمل سوى الربح أو الخسارة، وكذا خطر المضاربة. نعم إن نشاط المضاربة في الأسهم صحيح من الناحية التعاقدية من حيث المبدأ بعكس القمار، إلا أنهما - في تصوري - يشتركان في المآلات الضارة وتنافيهما مع مقاصد الشريعة في الغرض من العقود. ولذلك ليس غريبا أن ظهرت دعوات حتى في أمريكا بضرورة فرض نفس ضرائب القمار العالية على نشاط المضاربة في البورصات.
الأصل في الأسواق المالية الأولية أن تكون وعاء للمدخرات الوطنية توجه إلى استثمارات منتجة. أما أسواق المال الثانوية التي يجرى فيها إعادة بيع وشراء الأسهم، فالأصل فيها أن تعكس القيمة السوقية للأسهم بناء على اعتبارات اقتصادية منطقية، فيجرى فيها البيع حين يحتاج مالك السهم إلى السيولة، ويجرى فيها الشراء لمن يبحث عن وعاء لاستثمار مدخراته. لذلك كان ارتفاع أسهم شركات خاسرة ارتفاعا جنونيا هو مضاربة بحتة ليس إلا. مضاربة لا تتضح فيها الخسارة إلا بعد اكتمال دورة النشاط فيها، لأن مجموع عملياتها مجموع صفري، فمكاسب الفائزين فيها هي خسائر الفاشلين!
الإجراءات التي أعلن يوم الأربعاء الماضي عن وجود نية لتبنيها، كتجزئة القيمة الاسمية للأسهم إلى وحدات أصغر، وتصريحات كبار رجال الأعمال بضخ قدر من السيولة في السوق، والسماح للمقيمين بالتعامل في السوق، ستعيد للسوق شيئا من الحيوية التي افتقدتها. لكن المهم هو المحافظة على قوة دفع مستمرة في السوق، من خلال الإسراع في تقوية البنية الأساسية للسوق. كإنشاء بورصة يشرف عليها مجلس محافظين مستقل لضمان مزيد من الشفافية. والعمل على إصدار نظام لحوكمة الشركات، ونظام آخر للوسطاء الماليين من غير البنوك التي تتعارض مصالحها مع مصالح المتعاملين في الأسهم. وفوق هذا وذاك، الإسراع في فتح قنوات استثمارية مجدية، والاهتمام بتوسيع قاعدة الملكية في المجتمع، فهذا أدعى للاستقرار والرواج.
إن أهم درس يمكن أن نتعلمه مما جرى، هو أن تأخير اتخاذ القرارات الصحيحة عن وقتها الصحيح المناسب، له ثمنه الاقتصادي, والعباد في غنى عنه.
منذ الأربعاء الماضي وألسنة الناس تلهج بالدعاء لملك البلاد العظيم الذي يعيد الابتسامة على شفاههم كلما غابت. ما أجمل أن يشعر الناس أن لهم قائدا ونصيرا عند الملمات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي