أمريكا تستدين لتمول استهلاك مواطنيها

أمريكا تستدين لتمول استهلاك مواطنيها

بدأ السؤال منذ عام 1987 حين تساءل الاقتصادي المعروف بول كروجمان حينها بقلق: "هل يمكن أن يستمر العجز في ميزان المدفوعات الأمريكي وما يترتب عليه من مديونية؟"
منذ ذلك الحين أصبح التساؤل يطرح نفسه باستمرار إلى درجة أنه بات بالإمكان إنشاء مكتبة صغيرة تحتوي على كل الكتب التي صدرت حول هذا الموضوع تحديدا الذي عاد ليصبح مثار جدل الآن أيضا خصوصا أن التقديرات تشير إلى أن العجز في الحساب الجاري الأمريكي سجل هذا العام رقما قياسيا دون أن تكون ثمة في الأفق بارقة أمل بوضع حد لهذا التطور، ولكن هذا لا يعني أن الأمور ستستمر على هذه الشاكلة.
إن العجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات يعني: أن الأمريكيين يشترون من السلع والخدمات من الخارج أكثر مما يبيعون للخارج. والمشكلة هي أن هذا الفرق بين الجانبين قد تزايد على شكل قفزات، ففي عام 2005 بلغ العجز 805 مليارات دولار، وهو ما يساوي ضعف الإنتاج السنوي لبلدان ذات شأن مثل أستراليا أو هولندا. وتبلور هذا العجز الأمريكي بفضل استيراد الولايات المتحدة لكميات هائلة من السلع الاستهلاكية الرخيصة الثمن من الصين مثلا ومن شراء السيارات الأجنبية والنفط الخام وهذه بطبيعة الحال أنباء سارة بالنسبة للمستهلك الأمريكي. فهم يستفيدون من الاستيراد الهائل من العالم الخارجي.
ومن المعروف أن الميزان يتكون من جانبين: فمن يشتري من الخارج أكثر مما يبيع له، لا بد له من دفع الفرق للخارج، وهذا يعني أن مديونية الاقتصاد الأمريكي للخارج تزداد كلما ازداد العجز في ميزان الحساب الجاري لميزان المدفوعات، وأصبح حاليا في مستوى بالغ الخطورة: حيث إن مديونية الولايات المتحدة للعالم الخارجي بلغت عام 2005 نحو 2180 مليار دولار. ويظهر هذا بوضوح في ميزانيات البنوك المركزية لكل من اليابان والصين حيث تتكدس في خزائنهما احتياطيات هائلة من الدولارات، غالبا ما تكون على شكل أوراق مالية تصدرها الحكومة الأمريكية. ولا توجد ثمة في العالم دولة أخرى تسمح لنفسها باستمرار مثل هذا العجز الكبير والمتواصل للمدى الطويل في ميزان مدفوعاتها وما يترتب على ذلك من ارتفاع في مديونيتها للعالم الخارجي، دون أن تثير تساؤلات حول مدى صلابة عملتها، وما يترتب على ذلك من اضطرابات خطيرة في الأسواق المالية وهو ما يسبب الأذى للاقتصاد العالمي بأسره.
ولكن لأن الولايات المتحدة القوة العالمية رقم واحد ولديها أهم عملة في العالم وتتمتع بمكانة اقتصادية تفوق اقتصاديات المناطق الأخرى فما ينطبق عليها من قواعد يختلف عما ينطبق على غيرها، فعندما تنشب أزمة في مكان ما من العالم، يفزع الناس إلى الدولار – أي أن الولايات المتحدة تستفيد من مكانتها كملاذ آمن سياسيا واقتصاديا. ويمكن التأكد من ذلك بوضوح من خلال أسعار الصرف فوفقا لما تقوله الكتب فلا بد من انخفاض قيمة عملة الدولة التي تعاني من عجز كبير في ميزان مدفوعاتها مقارنة بالعملات الأخرى. ولكن يكفينا تماما إلقاء نظرة سريعة على نسبة التبادل بين اليورو والدولار لتقريب الصورة إلى الأذهان فمع أن اليورو اكتسب قيمة إضافية منذ عام 2000 مقارنة بالدولار، ولكن قيمته الآن لا تكاد تزيد على قيمته عام 1999.
ولأن ميزان الحساب الجاري في ميزان المدفوعات الأمريكي يعاني من عجز منذ السبعينيات دون أن تتحقق نبوءة "انهيار الدولار" التي كثر الحديث عنها، حتى هذه اللحظة، فإن بعض خبراء الاقتصاد يلجأون إلى مزيج من السخرية حول هذا الوضع. وسبق لأحد الخبراء الأوروبيين في السياسات النقدية أن قال: " ربما كان ثمة فائدة فيما يفعله الأمريكيون. ولكن ينبغي، في هذه الحالة إعادة كتابة النظريات الاقتصادية." ومع ذلك فإن حالة من القلق تعتري المنظمات الدولية والبنوك المركزية منذ زمن بعيد. وبالرغم من ذلك فإن ممثلي هذه المنظمات وتلك البنوك يكتفون عادة بإطلاق تعليقات متحفظة لكي لا يثيروا الهلع في الأسواق المالية.
ولأن الاقتصاديين نادرا ما يجمعون على رأي فقد ظهر من يمثل وجهة نظر أخرى مفادها أن العجز في ميزان المدفوعات لا يدعو للقلق. بل على العكس فإن استعداد بلدان العالم الخارجي لاستثمار أموالها في الولايات المتحدة يشكل مظهرا من مظاهر قوة الاقتصاد الأمريكي.
أما إذا كان العجز في ميزان المدفوعات يشكل خطرا على الدولار وعلى الاقتصاد العالمي، فلا يمكن إصدار حكم فيه استنادا إلى تحليلات اقتصادية بحتة، لأن مثل هده التحليلات لا تأخذ بعين الاعتبار المؤثرات السياسية. ولعل من المثير للانتباه الملاحظة التاريخية للتأثيرات المتبادلة بين الاقتصاد والسياسة، وهو ما فعله بول كنيدي في كتابه الكلاسيكي (صعود وهبوط القوى العظمى) الذي يبلين فيه كيف أن انهيار القوى العظمى غالبا ما تسبقه مرحلة من توسيع هيمنتها ومواردها، حيث تتسارع عملية الانهيار بمجرد أن تلاحظ القوى الأخرى أن ما ينظر إليه كعملاق إنما يقف على أرجل من طين. ومن يدري فقد تضطر القوة العظمى الأمريكية في مقبل الأيام إلى إعادة النظر في قيمة دولارها.
غير أن من الواضح أننا لم نبلغ هذه اللحظة بعد. ولكن من الواضح أيضا أن ثمة بعض المؤشرات على انحسار نفوذ القوة العظمى الأمريكية. ويبدو أن قوى مرشحة لأن تصبح قوى عظمى كالصين والهند تتصرف في مواجهة واشنطن بمزيد من الاعتداد بالنفس. ولهذا ترفض الصين مثلا الاستجابة للطلب الأمريكي بزيادة قيمة عملتها الوطنية.
لقد استفاد الدولار أيضا في السابق من القدرة على الإنجاز المتاحة لأسواق المال الأمريكية. ومن المعروف أن البورصات الأمريكية تقوم في هذه الأيام بشراء بورصات في الخارج لأنها تخشى من فقدان شيء من الأهمية التي تحظى بها أسواقها المحلية. ولكن يبدو، على أية حال، أن الدولار قد بدأ يفقد بريقه.

الأكثر قراءة