نوافذ الوطن والانتماء

نوافذ الوطن والانتماء

قراءة في المجموعة الشعرية "حيث النوافذ امرأة" للشاعر السعودي أحمد
اللهيب
الدكتور مقداد رحيم(*)
<p><a href="mailto:[email protected]">migdad25@hotmail.com</a></p>

يبدو الشاعر السعودي أحمد اللهيب مسكوناً بالوطن، مهموماً بقضاياه ومشكلاته وحاجاته، ويتَّسع مفهوم الوطن لديه ليكون أمَّةً بأكملها، وتاريخاً واحداً لا يتجزَّأ وإنْ تجزَّأت أوصاله،وتفرَّقتْ مناحيه، وتعددتْ أسباب فُرقته على مدى حقب متطاولة بفعل فاعل.
ففي مجموعته الشعرية الثانية "حين النوافذ امرأة" يحاول الشاعر أن يستدعي بعض حوادث التاريخ، ويستشعر ما لهذه الأمة من أمجاد وصفحات ناصعة، ليُظهر الحال التي تبدو عليها الآن وهي حال غير محمودة على الإطلاق، فيتجاوز العرض إلى النقد، ويستبطن الذاكرة ليستظهر العبرة، وهو في كل ذلك إنما يدلُّ على ثقافة تراثية واسعة، فضلاً عن إشهار موقفه الصريح، وإعلاء صوته الجريح، على الرغم من أن في روحه الشاعرة قدراً كبيراً من الرومانتيكية، وميلاً شديداً إلى الغنائية لو أراد إظهارَها، والضربَ على أوتارها لَفَعل.
ومن يدقِّق النظر في قصائد هذه المجموعة فإنه سيقفُ حتماً على تماهي جراح الوطن بجراحه هو، أو انصهارها في بوتقة روحه، فيتعذَّر الفصل بينهما، فيقعُ على شاعرٍ شفَّت روحُهُ فطفحت حساسيتُهُ بمشاعر وطنية وإنسانية عالية، وبفكرٍ آثرَ أن يكون ذا هدفٍ وقضية، فيبدو شديد الحزن مسكوناً، وغالباً ما يعتريه شعورٌ باليأس، بل القنوط المُفضي إلى الشعور بعدم جدوى الحياة.
يشيرُ الشاعر إلى التقهقر الذي أصبحت تعانيه الأمة العربية وتوالي الانكسارات والمآسي وتفشِّي الفقر والجهل فيها، فيتخذ من العراق في هذه الحقبة مثلاً صالحاً للمقارنة بعصر الرشيد الخليفة العباسي، حيث ازدهار الحضارة، واستقرار الدولة الإسلامية وانتشار مبادئها، وثرائها وسعتها، ومعرِّجاً على عبارة الرشيد الشهيرة وهو يخاطب غيمة مارة "أمطري أين ما شئتِ فخراجك عائد إليَّ"، فيقول:
وصوتُ المآسي كحبات رملٍ تقاطرَ منها السراب،
نطاردهُ نبتغي رشفةَ الحُبّ بين الوِهادْ،
ونخشى المطر،
إذا مرَّ فوقَ ربوعِ "الرشيد"،
فما عادَ يأتي الخراجْ،
ولو أمطرتْ بين أعيننا كلُّ هذي السحب. ص 14-15
ولا يُغادر الشاعرُ العراقَ دون أن يمرَّ ببغدادَ حيث الرافدان دجلة والفرات، وما يطفح بين جنباتهما، فيشير بشفافية طاغية إلى عدة معالم تراثية ثقافية تخصهما، مثل قصيدة الشاعر الحديث محمد مهدي الجواهري يا دجلة الخير التي مطلعها: حيَّيتُ سَفحكِ عن بُعدٍ فحيَّيني/ يا دجلة الخير يا أمَّ البساتينِ، وبيت الشاعر العباسي علي بن الجهم: عيون المها بين الرصافة والجسرِ/ جلبنَ الهوى من حيثُ أدري ولا أدري، ويأسَى على ما فاتَ من حبّ ومن غنى وقوة أمام أي اعتداء أجنبي، واستحال إلى ضعفٍ وفقرٍ وتشتت ودمار وفُرقة وانهزام:
وما عادَ صوتُ الفرات يُغنّي بلحنِ العِراق،
ولا مُقلة الحُسنِ تنداحُ بين "الرصافةِ والجسر"،
فموج الخليج يُبدّدُ أحلامَ كلِّ المنافي،
وكل المنافي تُناجيك: بغدادُ يا أمنا!
فيا حسرةً لكِ أسوارَ بغدادَ ماذا ترجّين منّا؟،
ومن خلف ظهركِ رومٌ ورومٌ،
وصوتُ الخيانة فينا. ص 15
وهو في ذلك يحاول أن يؤرّخ لما ما يمرُّ به العراق من مأساة الاحتلال الأجنبي، وفي الوقت نفسه يكشفُ عن سبب ذلك كله فيقرّر أنَّ الفعل قد تحوَّلَ إلى مجرد قول، فتحوَّلت الأمة بذلك من أمّةٍ فاعلةٍ مخلصةٍ لما تحتاجه كبرياؤها، إلى أمّةٍ تقف ضعيفةً هزيلة وراء ارتفاع أصوات الشعارات والأقوال الادّعاءات الكاذبة، وتترك لغيرها من الأمم انتهاز فرص الفعل:
يجوبُ الأسَى الأمَّ والبنتَ والطفلةَ الحائرهْ،
على صوتنا العربيِّ المُعظَّمِ نُهلِكُ فيه العلوجَ،
ونسحبُ بالذلِّ أذيالَ فخرٍ بصوتِ الهجاءِ،
وأصواتنا الظاهرهْ،
وأصواتنا الظاهرهْ.
لنصدحَ بالحب والهجرِ، والذلَّ والفخر،
ونترك للعالمين الفِعال.
لأنَّ الليالي تُسجّل مَن قال للقولِ: لا.
وتزعم يا سادتي
على رغم كل المآسي التي مزَّقتنا،
ورغم الليالي التي عذبتنا،
ورغم السنين التي شردتنا:
بأنا الأسودُ التي حين تزأرُ يهتزُّ قلبُ الجبال!!. ص 16-17.
على أنَّها أمَّة ما زالت منشغلة بخلافاتها الساذجة:
خلافنا يطول،
فبعضنا يقول:
ذا شارعُ الخليفة الأمين.
وبعضنا يقول:
ذا شارعُ الخلفة المأمون.
فتسمعُ النهيقَ والعويل.
....
قلْ ما تشاء،
فما عساها أن تفيدَ هذه الأسماء؟.
....
يا أمةً خلافها يطول
بالله قولي، ما الذي ستفعلُ القصيده؟. ص43-45
ولعلَّ الشاعر لم يرد مجرد الحديث عن الخلاف على تسمية الشارع بأحد هذين الاسمين، وإنما أراد أن يكون ذلك إشارةً إلى ما كان من خلافٍ بين الأخوين الأمين والمأمون على الخلافة العباسية، وما دار بينهما من تحاربٍ مرير من أجلها، على أن القصيدة لم تستطع أن تفعل شيئاً في هذه القضية في أمة شاعرة !
ومع انشغال هذه الأمة بهذه السفاسف التي تفصح عن ضعفها وهوانها إلا أنها ما زالت تفاخر، وما زال صوتها يمتد بالرياء والادّعاء، على حين عافت الأممُ القوية المتحضرة مثلَ هذا التفاخر، وانشغلت بمنجزاتها الحقيقية:
سقطتْ نسورُ العالمين ونسرنا
ما زال يقبعُ فوقَ قُمقمهِ المحطّمِ بالرياءْ،
يقتات من زهرات أعمارِ الخيول.
....
وتفتَّقتْ من وجنتيه منابتُ الفخر المظلل بالغباءْ،
في عينه يشتقُّ نهرُ الفقر صحراءَ السوادْ. ص 49
ويؤكِّد الشاعرُ انشغال الأمة بمجرد الكلام في مواضيع أخرى، ففي قصيدته "أحرف ضائعة" يشهد على مأساة أخرى من مآسي هذه الأمة وهي ضياع فلسطين التي لم يكن لها نصيب منها غير الشعارات والمؤتمرات بلا طائل، ويرمز لها بضياع حرف النون في كلمتي "وطن" و"فلسطين" و"الزيتون" فيها، كما يختصر ضياعها بمشهد ذلك الطفل الفلسطيني "محمد الدرة" الذي استشهد برصاص المغتصبين وهو يحتمي بظهر أبيه:
في مدنٍ لا تعرف أن تحزنَ،
أقصى ما تملك أن تشجب أو تصرخَ أو ترقصْ،
ليست قادرةً أن تفعلْ،
فيها آلافٌ تشربُ في قارعة الطرقاتْ،
ككلابٍ تلعقُ ما تلقى من جيفٍ جوفاءْ
وأعاودُ أبحث عن ياء خرساءْ،
تسكن في قاع البحرْ،
تحكي آلاف الآلامْ،
عن عشق الوطنِ المدفونِ بآلاف الأوراقْ،
ومئات المؤتمرات البلهاءْ،
يا وط.. آه الزيتو..
أين النونْ؟
ضاعتْ في الآفاق،
في صرخة طفلٍ يتوارَى خلفَ أبيهْ
آهٍ بل أين فلسطي؟
آهٍ بل أين فلسطينْ؟ ص34
وإذْ يبحثُ الشاعر عن وطنٍ حقيقي فإنه لا يقع إلاَّ على وطنٍ لا وجود له في الواقع..وطنٍ لا يسمح له حتى بالحلم:
قصصتُ – في هدوء- قصةَ الحَمَام،
أوصدتُ شبَّاكي الذي سيبعثُ الظلام.
فالحلمُ في مدينتي...
حرامْ
حرامْ
حرامْ. ص57
وما دامت لوطنه هذه الصورة القاتمة فأي وطنٍ هو سوى وطن لا وجود له حقاً، وليس المواطن- الشاعر فيه سوى جماد لا مشاعر فيه ولا حركة: أي شيءٍ يجدّد في عالمي لهفة الشوق حتَّى أظل حبيساً هنا؟/ وطني ميِّت،/ وأنا صخرة من جمادْ.. / إنني أبتغي هيكلاً للخلودْ. ص65
فما الذي بقي في نفس الشاعر وقد تلبَّستها هذه الهموم، وأحاطت بها هذه المشاعر الموحية بالخيبة واستمرار العذاب وهو يحسُّ بعمق مأساة أمته؟ إن ما بقي من شعر أحمد اللهيب في هذه المجموعة هو شذراتٌ من أسَى وحزنٍ وخيبة أو خيبات قد تُفضي به إلى الشعور بعدم جدوى الحياة، ففي قصيدته "رسالة إلى سيدي الذي لم يحضر" يتجلَّى هذا "السـيِّد" في صورة الضياع الذي هو صورة من صور الموت أو هو الموت نفسه:
سيدي،
أرى اليأسَ يزحفُ بينَ الحواجبِ.
لقد ضاعَ كلُّ الذي كنتُ أملكُ في غيهبِ الجب،
وحتى حدودُ البكارةِ مني،
وحتى ملامحُ وجهي،
وحتى الخطوطُ التي في يدي،
ضاع الذي كنتُ أملك،
غيرَ ثُقبٍ صغيرٍ أُطلُّ بهِ نحو بوابةِ الموت!!. ص21
......
إن الشاعر أحمد اللهيب شاعر جاد ملتزم بقضايا وطنه وأمته وانتمائه إليهما، وقد رأى أنَّ على الكلمة أنْ تؤدّي فعلها حيث غابت الأفعال إلاَّ قليلاً، وأن على المبدع أن يؤدي وظيفته الإنسانية التي لا ينفكُّ الوطن والانتماء إلى أمته العربية يقعان منها في المقدمة، ولذلك نجدهُ يدور حول ما يتصل بهذين المعنيين الساميين في أغلب أشعاره، ولاسيما في مجموعته هذه وإنْ وَضَعَها تحت عنوانٍ مراوغ هو "حين النوافذ امرأة"، وإذْ أقول: أغلب أشعاره، فإنما وددتُ الإشارة مرة أخرى إلى أن شعره لا يعدم الغنائية والاعتناء بأغوار العاطفة الجياشة ومعاني الرغبة من حيث هو إنسان نابض بالمشاعر، ولذلك فرصة أخرى للحديث.
ومن ناحية أخرى نجد الشاعر ما زال ينسلك في رعيل شعراء التفعيلة، حيث يلتزم بالنظم على إيقاع الشعر العربي الحديث الحرّ لإحساسه بفنية النص الشعري وضرورة تحلِّيه بالموسيقى الخارجية والداخلية، ويحافظ على شيء أساسي من أصالته وخصوصيته، على أنه واحد ممن ينظمون الشعر المقفَّى، وإذا لم تتضمن مجموعته هذه أيَّ قصيدة مقفاة فإن مجموعته الشعرية الأولى "النبع الحزين" لم تتضمن إلا النزر القليل من الشعر الحر، فقد كان الأعمُّ الأغلب من قصائدها مقفاة ذات شطرين.
ولاشك عندي في أنَّ الشاعر أرادَ بنشر مجموعته الشعرية الأولى على تلك الهيأة وهي صدى لثقافته وتكوينه، إنما لِـيَـظهر في ساحة الشعر كاملَ التأسيس، وافرَ الأدوات، صحيحَ النشأة، حتى إذا ظهر في مجموعته الثانية منحرفاً على صعيد الشعر الحر فإنَّ انحرافه هذا سيكون عن خبرةٍ ومَكَنةٍ واقتدار، لا عن استسهالٍ وامتناعٍ وضيق أفق، وقد أحسنَ فيما فعل، فها هو يكتب القصيدة الحرة ذات التفعيلة دون أن يكون الوزن الشعري عائقاً أمام موضوعاته أو انسياب أسلوبه في التعبير عن أفكاره، أو بلاغة التراكيب الشعرية.

(*) شاعر وناقد عراقي مقيم في السويد.

الأكثر قراءة