برامج ثقافية وتراثية تضع حضارة المملكة على الخريطة العالمية
المملكة العربية السعودية ليست مجرد دولة عضو في منظمة اليونسكو، بل هي عضو مؤسس منذ إنشاء المنظمة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حين أوفد الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ مستشاره حافظ وهبة للتوقيع بالنيابة عنه على الميثاق التأسيسي لليونيسكو باسم المملكة. هذه النظرة الثاقبة المتجاوزة لكل تصور من لدن الملك المؤسس لم تتواكب للأسف مع حضور فاعل للمملكة مفيد أو مستفيد طوال هذه الـ 60 عاما. لكن ما الذي حدث من تحولات غير مسبوقة في الحضور السعودي خلال السنوات الأربع الماضية؟ الأكيد أن الإجابة تكمن فيما حققته المندوبية الدائمة للمملكة لدى اليونسكو خلال هذه السنوات.
وهو ما نستعرض بعضا منه في هذا التقرير:
قفزت المملكة بنشاطها الأممي في مجال التراث والثقافة والعلوم خلال السنوات الثلاث الأخيرة إلى مستويات غير مسبوقة بعد أن نجحت في وضع نماذج من التراث الوطني للمملكة ضمن قائمة التراث العالمي، وأسست برامج دولية مشتركة مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم ''اليونسكو''.
ووفق متخصصين فإن نجاح المملكة في وقت قياسي لا يتجاوز أربعة أعوام في إدراج جزء من تراثها التاريخي وهي ''مدائن صالح'' و''الدرعية القديمة'' إلى جانب جدة التاريخية ضمن أهم مقومات التراث العالمي، والتحضيرات النهائية لإطلاق برنامج عبد الله بن عبد العزيز العالمي لتعزيز ثقافة الحوار والسلام، وبرنامج الأمير سلطان بن عبد العزيز لدعم اللغة العربية، هو ''اختراق'' كان يمكن أن يقضي أجيال من السعوديين سنوات لتحقيقه.
#2#
وتتمثل مكاسب المملكة الدولية من جراء هذا النشاط المستمر من قبل الجهات المعنية في المملكة كوزارة التربية والتعليم أو الهيئة العامة للسياحة والآثار أو المندوبية الدائمة للمملكة في اليونسكو، في تغيير الصورة النمطية غير الجيدة عن المملكة في الأوساط الدولية، إلى جانب الكشف عن الكثير من الجوانب الخفية عن الماضي العريق للمملكة على اعتبار أنها من أقدم مواقع العالم أرضا للبشرية ومهدا للرسالات.
الملك.. والحوار العالمي
امتدادا لمبادرات خادم الحرمين الشريفين لنشر القيم الإنسانية العليا ومنها ثقافة الحوار والسلام والتسامح بين شعوب العالم، وإرساء المبادئ المشتركة بين كافة الأديان والحضارات، وهو تعبير عملي لمواقف المملكة الداعمة للمجتمع الدولي الذي يعيش هذا العام أجواء السنة الدولية للتقارب بين الثقافات 2010، تستعد منظمة اليونسكو بحسب ترجيحات مختصين خلال أيلول (سبتمبر) المقبل لإعلان إطلاق برنامج ''عبد الله بن عبد العزيز العالمي لتعزيز ثقافة الحوار والسلام''
البرنامج الذي أقره مجلس الوزراء أخيرا، يعزز مكانة المملكة بوصفها مركز الثقل الإسلامي ودولة رائدة تولي ملف الحوار بين أتباع الأديان أهمية بالغة؛ كونه ضرورة كونية وقيمة إسلامية، ومسؤولياتها ليست هيّنة في مواجهـة التحديات التي تواجه الأمة والبشرية جمعاء.
وستسهم هذه المبادرة النوعية في تحويل أنظار التاريخ نحو إبراز القواسم المشتركة بين حضارات الشعوب وتعزيزها، بدلا من لغة التضاد التي حذّر منها الملك عبد الله بن عبد العزيز في مقولته الشهيرة ''إن التركيز عبر التاريخ على نقاط الخلاف بين أتباع الأديان والثقافات قاد إلى التعصب، وبسبب ذلك قامت حروب مدمرة، وسالت فيها دماء كثيرة لم يكن لها مبرر من منطق أو فكر سليم''.
وتسعى مندوبية المملكة لدى اليونسكو في الإعداد للبرنامج، مؤكدا متانة العلاقة بالمنظمة، خاصة بعد الزيارات المتبادلة بين وزير التربية والتعليم الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد آل سعود ومدير عام المنظمة السيدة إرينا بوكوفا، وعضوية المملكة في المجلس التنفيذي، التي أسهمت في ترجمة جهود المملكة ومنظمة الأمم المتحدة ''اليونسكو'' على هذا الصعيد، وسيجري وضع الترتيبات اللازمة الكفيلة بالبرنامج بما يناسب مكانة المملكة في الأوساط الدوليـة، حيث من المرجح أن يعلن عنه في أيلول (سبتمبر) المقبل.
ويعد البرنامج الجديد استكمالا لمبادرات ملك الإنسانية المنوّعـة التي حققت صدى عالميا واسعا، ومن أبرزها مؤتمر مدريد الذي عقد بعد مؤتمر مكـة المكرمة للحوار بين أتباع الأديان عام 1429هـ، ثم مؤتمر نيويورك الذي استضافته الأمم المتحدة في العام نفسه (2008م) تحت عنوان (الثقافة من أجل السلام)، حيث صدر عن هذه التظاهرات الدولية عديد من الأفكار والتوصيات التي تتطلب آليات تنفيذية على أرض الواقع، فكان هذا البرنامج العالمي لتهيئة أرضية خصبة ينمو فيها فكر بشري متطور قائم على التسامح والتعاون في مواجهة الأزمات وتحرير البشرية من عقليات التصادم والتنافر والحروب، وذلك من خلال عديد من الفعاليات والمعطيات، ومن أبرزها: تنظيم ملتقيات دولية تسهم في نشر ثقافة الحوار والسلام بين الشعوب، وبين الناشئة خصوصا، علاوة على التواصل الإعلامي المطبوع والمرئي والمسموع لإبراز الإرث الإسلامي والعالمي وما يكتنزانه من شواهد تدل على ثراء التنوع الثقافي من أجل تجنب دوافع الكراهية والاحتقان والإرهاب في العالم.. علاوة على تداول عديد من الأفكار للاستفادة من إمكانات المنظمة ومكاسب المملكة الحضارية مثل مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني في الرياض.
#3#
برنامج الأمير سلطان لدعم اللغة العربية
تأكيدا أمميا على أن المملكة العربية السعودية لا تألو جهدا في الارتقاء باللغة العربية اللغة الأم لأكثر من 350 مليون نسمة حول العالم بخلاف المسلمين والمهتمين والبالغ عددهم نحو 1.5 مليار نسمة، تبنى الأمير سلطان بن عبد العزيز، ولي العهد، سنة 2006 برنامجا لدعم اللغة العربية في منظمة اليونسكو والتي كانت تعاني حينها شيئا من التهميش رغم أنها تصنف ضمن ست لغات عالمية رسمية هي ''الإنجليزية، والفرنسية، والروسية، والإسبانية، والصينية، والعربية''.
أنطلق البرنامج بتبرع بلغ مليون دولار عزز في 2007 عند التدشين الرسمي بتبرع إضافي من ولي العهد بلغ 2.5 مليون دولار، وأوكلت إلى البرنامج أربع مهام رئيسية ومحورية لدعم تواجد اللغة العربية على الساحة الدولية وضمن أجندة المؤسسات الأممية والعالمية، وهي:
أولا: الترجمة الفورية باللغة العربية للندوات والمؤتمرات التي تنظمها ''اليونسكو''.
ثانيا: الترجمة التحريرية لبعض الكتب والإصدارات التي تصدرها منظمة اليونسكو، كان من أبرزها ترجمة كتاب ''الفلسفة سبيل الحرية'' وهو من أمهات الكتب التي أصدرتها المنظمة وترجم عالميا إلى ثلاث لغات فقط وهي الإنجليزية والفرنسية والعربية.
ثالثا: ترجمة الصفحات الإلكترونية على موقع المنظمة الإلكتروني وكافة البيانات والمعلومات التي تصدرها المنظمة إلكترونيا، حيث تم حتى اللحظة ترجمة نحو ثمانية آلاف صفحة إلكترونية.
رابعا: تدريب كوادر عربية من خريجي كليات الترجمة ضمن برنامج مدته عشرة أشهر في مقر المنظمة في باريس للعمل في الترجمة الفورية، وقد تم تنفيذ البرنامج في محلته الأولى على ستة مترجمين من ست دول عربية.
#4#
الآثار السعودية.. تراث عالمي
بحسب المختصين فإن بداية اهتمام المملكة في مجال تدويل التراث كانت خلال مقابلة للأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار مع مدير عام اليونسكو السيد كوشيرو ماتسورا عند زيارته للمتحف الوطني بتاريخ 2-4-1427هـ أكد خلالها ضرورة أن يكون للمملكة مواقع مسجلة في قائمة التراث العالمي لما تملكه من مواقع ذات قيمة حضارية وتراثية كبيرة، خاصة أن جميع دول الجوار بما فيها دول الخليج واليمن ومصر والأردن سجلت مواقع تراث ثقافي وطبيعي لديها في قائمة التراث العالمي.
وقد صدرت موافقة المقام السامي الكريم بتاريخ 19-7-1427هـ الموافق 14-8-20006م، على تسجيل ثلاثة مواقع هي: الحجر (مدائن صالح)، الدرعية القديمة، وجدة التاريخية، وقدّمت الهيئة لمركز التراث العالمي باليونسكو القائمة الأولية للمواقع الثلاثة, وتم قبولها مبدئيا بتاريخ 24-9-1427هـ الموافق 17-9-2006.
وتعد موافقة الأمم المتحدة على إدراج مدائن صالح و''الدرعيـة القديمة'' ضمن قائمة التراث العالمي بعد ذلك امتدادا للنجاحات التي تحققت للمملكة، حيث برز الدور السعودي بشدة في هذه المنظمة بعد فوزها في انتخابات المجلس التنفيذي بمنظمـة الأمم المتحدة للتربية والثقافـة والعلوم ''اليونسكو'' قبل ثلاث سنوات، إذ تمكنت المندوبية الدائمة لليونيسكو بالتشارك مع هيئة السياحة والآثار أن تحوز ثقـة الأمم المتحدة وصوتوا بقبول الدرعية ضمن القائمة الدولية كثاني موقع عقب مدائن صالح، وينتظر قريبا أن تصبح جدة التاريخية أيضا ضمن قائمة التراث العالمي.
ويعزز هذا الحراك المتلاحق والسريع لضم الآثار السعودية إلى قائمة التراث العالمي القيمة التاريخية للجزيرة العربية كموطن قديم لحضارات بشرية، كما يؤكد أن المملكة تملك الكثير من المقومات الحضارية والتاريخية، ومن المهم نقل هذه الثقافة والحضارة للعالم والتفاعل مع التغيرات العالمية، لكي تبرز المملكة إسهامها في التحولات الحضارية العالمية، كما قال الأمير سلمان في تصريح نشر له عقب ضم الدرعية القديمة لقائمة التراث العالمي.
المملكة والمجلس التنفيذي لليونسكو
يبرز دور المملكة كونها عضو المجلس التنفيذي للأعوام الأربعـة القادمـة، قياسا إلى دورها المحوري بوصفها قلب العالم الإسلامي والعربي، حيث تعمل اليونسكو على تطبيق خطة العمل العالمية للتعليم للجميع ودعم وتشجيع البحوث التربوية، وتعزيز شبكات العلوم والمعارف والتعليم في التخفيف من وطأة الكوارث، إضافـة إلى محاربـة الفقر والهجرة ومعالجة مشكلات الشباب.