ماذا يحمل الديمقراطيون للاقتصاد الأمريكي؟
بعد فوز الحزب الديمقراطي في انتخابات الكونجرس الأخيرة تزحزحت بنية السلطة السياسية في واشنطن نحو اتجاه يدفع بالكثير من التساؤلات. ففي هذه الكوكبة الجديدة لا يمكن الحديث عن وجود توافق وانسجام تام في نهج السياسة الاقتصادية. إن هذه الهدنة المؤقتة تخيم حاليا في وقت فقد فيه النمو الاقتصادي جزءا كبيرا من حيويته القديمة. الجزء الأول كان في معدل نمو دخل الدولة الإجمالي، فبعد أن ارتفع إجمالي الدخل المحلي خلال الربع الأول بمعدل سنوي قدره 5.6 في المائة، تراجع خلال الفترة ما بين تموز (يوليو) وأيلول (سبتمبر) وازداد فقط بنسبـة 1.6 في المائة، فيما أصاب القوة الإنتاجية العاملة التي تعد منذ أمد طويل المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي، ركود خلال الربع الثالث.
الأصعب من وصف الوضع الاقتصادي الحرج في أكبر اقتصاد في العالم، هو التكهن بكيفية استمرار الأوضاع في الولايات المتحدة. فالتساؤلات تدور: هل يواصل التراجع مسيرته في أمريكا، ويقودها بذلك إلى أول رحلة كساد منذ ما يزيد على خمسة أعوام؟ أم أن المرحلة السيئة قد تجاوزتها أمريكـا وسوف تواصل قريبـا طريق النمو؟ في الواقع تختلف الآراء والأجوبة على هذه التساؤلات بين المراقبين في بورصة (وول ستريت) وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى أن وضع الاقتصاد في الولايات المتحدة ما زال مبهما، فالنتائج المطروحة أخيرا تشير إلى جهة وبعدها إلى جهة أخرى. وعلى هذا، فإنه من الأجدر توثيق ما يقوله رئيس البنك المركزي الأمريكي بن بيرنانكيه بأن الاقتصاد في أمريكا يمر حاليا بمرحلـة انتقاليـة.
وفي جوهر العديد من الأفكار تقف سوق العقارات التي منحت الوضع الاقتصادي خلال الأعوام الماضية الأخيرة دوافع قوية إلى الأمام عبر شتى الوسائل والطرق. وكان من المنتفعين من هذا الدعم قطاع البناء والتعمير مثل محال الأثاث ومعارض بيع أدوات البناء وسماسرة العقارات ومصنّعي الأجهزة الكهربائية المنزلية. حتى الاستهلاك الخاص لم يسلم من دعم ازدهار سوق العقارات وذلك من خلال ارتفاع أسعار العقارات. حيث قام الكثير من أصحاب المساكن باستغلال فرصة انخفاض الفوائد وارتفاع قيمة عقاراتهم بإبرام عقود تمويل ميسرة، وبالتالي تدفق الجزء الأكبر من رؤوس الأموال تلك التي أصبحت حرة، تدفق الجزء الأكبر منها في الاستهلاك الخاص.
في هذه الأثناء هدأت وبصورة ملحوظة نيران سوق العقارات السكنية، حيث يلاحظ تزايد عروض بيع منازل لعائلة واحدة (فيلا)، في الوقت نفسه تخلخلت الأسعار بصورة متكررة, فبعد مرور أعوام تحول الحديث وأصبح حول سوق شراء بدلا من سوق بيع. هذا التطور ليس مفاجئا على الإطلاق، حيث إن أسعار العقارات خلال الأعوام القليلة الماضية قفزت في مناطق عديدة إلى مستويات عالية بصورة رهيبة، ووصلت في زحفها حتى إلى بعض المناطق التي لم تكن أصلا تستحق. جزء من مسؤولية ارتفاع أسعار العقارات في بعض الأماكن بهذه الصورة الخيالية تتحمله الاحتياطات الفيدرالية. فـرعاة العملة النقدية في عهد رئيس البنك المركزي السابق ألان جرينسبان فتحوا في عامي 2003 و2004 بوابات تدفق السياسة النقدية على مصراعيها في حين كان الازدهار الاقتصادي راسخا والأسعار الاستهلاكية قد بدأت تتصاعد. وهكذا وجدت السيولة الرخيصة طريقها ليس فقط إلى مختلف مؤشرات التضخم المالي فحسب، بل أيضا إلى أسواق بعض الأصول والممتلكات، من سوق العقارات حتى سوق الأوراق المالية, ما أغرى بعض الأمريكيين بالإقبال على شراء منزل ثان أو ثالث من منطلق دافع المضاربة. لكن ما ترتب على هذا الانفتاح وبوجه خاص هو أن الفجوة ما بين أسعار العقارات ودخل الفرد اتسعت لدرجة أن الطاقة القصوى لتحمل العبء بلغت في وقت من الأوقات أوجها على الرغم من شروط التمويل الميسرة.
في الواقع، تحمل ضربة حادة في سوق العقارات بين ثناياها خطرا من احتمالية وقوع ركود أكثر وضوحا في النمو الاقتصادي، ليس عبر القنوات المباشرة، بل أيضا عبر تأثير سلبي للأصول والممتلكات والذي قد يسبب نكسة شديدة في سوق الاستهلاك. السبب في أن هذا الأمر لم يحدث لغاية الآن يعود من جهة إلى قيمة فوائد الرهن العقارية، فهي في الوقت الحالي منخفضة نسبيا. فيما يستفيد الاستهلاك من جهة أخرى من نقطة أن قطاعات أخرى من الاقتصاد الأمريكي مازالت تتمتع بوضع جيد. فأسعار الأسهم في وول ستريت لا تدعمها فقط السيولة المتوفرة بكثرة إلى الوصول إلى نتائج قياسية، بل تدفعها أيضا الثقة الكامنة بأن أرباح الشركات ستواصل ارتفاعها. وما يفعل أكثر مما ينبغي هو سعر النفط في الوقت الحالي، الذي لا يخفف العبء على الشركات فحسب بل أيضا على المستهلكين. لهذا السبب يوجد، وعلى الرغم من جميع المخاطر الموجودة، أسباب مقنعة للاعتقاد مع الاحتياطات الفيدرالية بوقوع تراجع خفيف للاقتصاد في الولايات المتحدة.
بيد أنه يجب على رعاة العملة النقدية أن ينتبهوا إلى أن تحرك الازدهار الاقتصادي ببطء لن يقلل من ضغط الأسعار، فالتضخم المالي ليس بمعادلة يكون متغيرها هو الأعمال الاقتصادية الشاملة أكثر مما هي متعلقة بالسيولة الموجودة. فمستوى الأسعار بوجه عام يهدد بالتصاعد بصورة سريعة إذا بدأت نقود كثيرة تطارد سلعا قليلـة. ولهذا السبب فعلى الاحتياطات الفيدرالية ألا تخشى سن تشدّد آخر للسياسة النقدية في حالة وقوع الشك والريبة، فمن خلال ضمانها لثبات الأسعار تكون قد أسهمت بصورة فعالة أكثر في مجال النمو والتشغيل الوظيفي، من أن تسهم بجميع جهودها في تثبيت الوضع الاقتصادي لفترة قصيرة.
من النقاط المهمة أيضا للاقتصاد كأهمية ثبات الأسعار هي نقطة الشروط المبدئية التي تضعها السياسة. فمسألة رفع حد الأجور التي يطالب بها الديمقراطيون تخالف المنطق وخطيرة في الوقت نفسه. فما سيفيد الأيدي العاملة أكثر هو تصويت الديمقراطيين على خطة الرئيس الأمريكي جورج بوش والتي هدف إلى تأمين إعفاءات ضريبية للسنوات الماضية بصورة دائمة بدلا من الضمان المعقود حاليا والمحدد لغاية عام 2010. لكن هذه الخطوة تتطلب شجاعة كلا الطرفين من خلال دعم ميزانية الدولة وتقليل المصروفات.