الجانب الآخر من الازدهار الاقتصادي في الهند
كانت الهند تعتبر لسنوات طويلة رمزا لبيوت فقراء العالم. ولعل صور الأم تريزا المنتشرة في كالكتا هي خير تعبير عن هذا التصور. غير أن هذا الوضع تغير كليا خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة . حيث أصبحت الهند اليوم تعتبر حاملة أحد مشاعل الاقتصاد العالمي مثلها مثل الصين, إن لم تكن تتفوق عليها, بسبب طابعها الديمقراطي. فبعد أن كان الناتج المحلي الإجمالي لشعب يبلغ تعداده المليار قد سجل العام الماضي نموا قدره 8 في المائة ينتظر أن تبلغ نسبة النمو السنوي لهذا العام 10 في المائة . وتعتبر الهند أفضل من الصين في تعاملها مع المستثمرين من حيث البساطة ومن حيث المردود . حيث استطاع المستثمرون أن يضاعفوا قيم أسهمهم الهندية خلال سنة ونصف فقط. ولكن ماذا استفاد الهنود من هذه النهضة الاقتصادية؟ والى متى يمكن أن تستمر ؟
لقد تم تحرير ملايين الهنود من أنياب الفقر، كما أن الاقتصاد الهندي الذي بقي عشرات السنين دون مستوى إمكاناته سينتقل في السنوات المقبلة إلى عصر جديد بفضل الاستثمارات الأجنبية المتزايدة . لقد استغرقت عملية التحول هذه فترة أطول مما استغرقته في الصين لأن الهند تنوء تحت أعباء بيروقراطية متجذرة وبنية تحتية غير مكتملة و لكن الهند تتميز بوجود نظام ديمقراطي يجعل من بطاقة التصويت ما يشبه مانعة صواعق بالنسبة للسكان الساخطين الغاضبين وهو ما تفتقده الصين
ومع ذلك فليس من السهل على نيودلهي أن تحافظ على مجتمع متعدد الطوائف كالمجتمع الهندي. وفي الحقيقة أن الشروخ حاليا تزداد عمقا في المجتمع الهندي، وهي قائمة بين الأغنياء والفقراء، بين المدينة والريف, بين التقاليد والتقدم, وبين أولئك الذين تتاح لهم أوسع الفرص وأولئك الذين يكابدون الفاقة والحرمان.
ومما لاشك فيه أن التحديات تبدو محسوسة بشكل خاص لدى مقارنة المدينة والريف, فالنمو اللافت للطبقة الوسطى في الهند بمعدل 40 مليون نسمة سنويا, وهو ما يساوي مجموع سكان بلد كإسبانيا, يخفي حقيقة مئات الملايين من البشر. إن أولئك الذين يذرعون الأسواق الفاخرة جيئة وذهابا والذين اشتروا في البداية دراجة هوندا ثم سيارة تاتا صغيرة والذين يرسلون أبناءهم لتلقي تعليمهم في المدارس الخاصة ويتحدثون بلغة إنجليزية مفهومة ويشترون الأسهم لا يشكلون سوى أقلية مقارنة بـ 300 مليون هندي يعيشون في دوامة الفقر والحرمان. ولكن ما يبشر بالخير, من وجهة نظر تجارية أن الطبقة الوسطى تنمو عدديا كما تنمو قوتها الشرائية.
أما الخلاصة فهي أن الشرخ بين الفقراء والأغنياء يتسع حتى آخر ركن من أركان البلاد مع تنامي حالة الرفاهية. ولعل هذا هو ما يغذي تمرد الماويين والذي يسيطر حاليا على مقاطعات بكاملها, وفي الوقت نفسه فإن الهجرة من الريف آخذة في التزايد مع مرور الأيام ويزداد معها اتساع المدن إلى حد لم يعد من الممكن السيطرة عليه, في الوقت الذي قلت فيه قدرة المدن أكثر من أي وقت مضى, على توفير أماكن العمل والسكن.وهذا هو السبب الذي يدفع الحكومة الهندية للضغط والدعوة، بصوت عال, من أجل القيام بثورة خضراء ثانية. ولا شك أنها بهذه الدعوة تسير على خطى الصين, فبكين, كما نيودلهي, تعرف أن خطر وقوع الاضطرابات يزداد مع كل دولار يضاف لدخل سكان المدن ويحرم منه دخل سكان المناطق الريفية. ولهذا تقوم الصين تحت اسم السياسة الريفية الاشتراكية الجديدة, بإنشاء مشاريع جديدة وطرقات حديثة بلا ضرورات ملحة. أما الهند فقد ابتدعت معادلة توظيف تضمن للأسر الريفية بموجبها 100 يوم عمل مدفوعة الأجر. ولكن ذلك يثقل كاهل الدولة إذ إنه من المعروف أن القطاع الخاص هو وحده القادر على إعطاء دفعة لجهود التوظيف.
إن الولايات الهندية وما تعانيه من بيروقراطية وحكومات فاسدة هي أكبر معوقات التنمية, وفي هذه الأثناء استطاع حتى الحزب الشيوعي, الذي يحكم ولاية البنجال الغربية وعاصمتها كالكتا أن يبرز كرائد لسياسة استثمارية حديثة, وذلك لضعف الولايات الاتحادية الأخرى. وسبق لراجيف غاندي رئيس وزراء الهند الأسبق, أن قال إن نسبة 15 في المائة فقط من الأموال المرصودة للتنمية تصل إلى الفقراء.
وفي الوقت الذي تتغير فيه ظروف الحياة في المناطق الريفية ببطء شديد, تتغير هذه الظروف في المدن بسرعة فائقة. ويبدو أن العديد من النزاعات ترجع في أصولها إلى حالة عدم العدالة الاقتصادية وهذا ينطبق بشكل خاص على المواجهات التي تحدث بين الجماعات الدينية. غير أن هذه المسألة لا تلبث أن تعود للظهور في نضال النخبة ضد نظام الكوتا المتبع في القبول في معاهد الدراسات العليا الذي لا ينصف الطبقات الدنيا . إن الأسر الهندية المتعلقة بالتقاليد تجد نفسها في مواجهة تيارات الحداثة. وهو الأمر الذي يؤدي إلى صراع الأجيال فحصول المرأة على وظائف قيادية, وحصولها على دخل خاص بها , وتحررها من الأدوار التقليدية تشكل مصدرا من مصادر الاستفزاز بالنسبة للمجتمع التقليدي.
وتفاخر الهند منافستها الصين بسكانها الأصغر عمرا وهي ميزة ديمغرافية لا يمكن الاستفادة منها إلا عندما يحظى سكان الأرياف بحد أدنى من التعليم, كما لا بد من تأمين المواطنين من خلال نظام للتقاعد . إن الظروف الكارثية في الصين تمثل أكبر تحذير للهند في غالبية قطاعات المجتمع, ولا بد للهند من النظر إلى هذه الظروف بتمعن إذ إنه ليس أمام نيودلهي متسع من الوقت للحيلولة دون وقوع أضرار لا يمكن معالجتها.