شهرزاد تستعين بالموسيقى لحكايتها الجديدة!

 شهرزاد تستعين بالموسيقى لحكايتها الجديدة!

هل الموسيقى أحرف ضالة، تبحث دوماً عن طريقة تختزل روحها، سواء كان هذا فناً كتابياً، أو فناً تشكيلياً، أو لوحة جسدية، متمثلة في فن رقصي، أم هي صورة سريالية، يراها أناس دون آخرين، يسعى الموسيقي إلى الوصول إليها عبر أدوات محترفة، كما عبر بها نصير شمة عازف العود الشهير: "صرت أريد من الموسيقى أن تصبح صورة تُرى بالعينين كما تُسمع بالأذنين، صرت أبحث عن موسيقى الصورة التي صارت هاجسي في كل ما ألفت من أعمال موسيقية".
لماذا من الصعب تحديد معالم واضحة لهذا الجنس الإبداعي؟ وإدراك العلاقة بينه وبين سائر الفنون، لماذا يصاب الناقد الموسيقي دوماً بخيبة أمل، حين المحاولة بالظفر بحالة النص الموسيقي، ومن ثم تفكيكه عبر بُنَى نقدية، يوصل بها نظرته إلى القارئ، والمهتم، أسئلة كثيرة دون إجابة، تصحب المستمع والناقد، والمتذوق لهذا الجنس الإبداعي، لذلك كان هذا التحقيق محاولة لاستصدار بحث عملي للتجربة الشخصية مع هذا الفن، مع بعض الكتاب:
تقول الكاتبة هبة البيتي: "دائماً هناك تواطؤ خفي بين الموسيقى والكلمة. الموسيقى دائما تُحاول أن تستنطق الصمت، وأن تُفتّق من بين أنامله ندى كلمات. والكلمة بدورها تُحاول، عبثاً، أن تُحاكي مدى الموسيقى الذي ينفتح على ما بعد مجهول الأفق وأسرار المسافات. وكأنما هناك شُعلة سرّية، توقِد كلا مَن الكلمة والموسيقى، ليستثير كل منهما الآخر ويعمل على استيلاده منه.
فاللغة في مجملها وعلى اختلاف أشكالها وصيغها، ليست إلا محاولة لتكثيف انفعالات معينة واختزانها في بوتقة ذاكرة زمنية قابلة للاجترار وبالتالي للخلود. اللغة محاولة لترسيخ أعمار الحناجر المشروخة بجفاف أوتارها، والدماء المحتقِنة بغضبها. اللغة محاولة لاختلاق مبررات للوجود، وزرع رئةٍ للمنطق. اللغة مشيٌ على جسد "المستحيل" لِفقئ بذور "النشوة" في مغاوِر الحروف اللزجة. اللغة تجسيدٌ قاطع لشهوة البشر لارتكاب اللعب، والتحايل به على ريح العبث الحادة كسِكين.
ولكي نصل إلى لحظة "التفتّق الأول" للكلمات، بغض النظر عن محتواها أو قدرتها على القول أو اختراق حدود المعنى الظاهر، يجب أن نتجّرع الصمت وأن نعتاد على سَبر أغواره. فالصمت هو المحفّز الأساسي لارتكاب حماقة (الكلام) أو (الكلمات)".
إذاً هي ترى أن الموسيقى صمت، وهذا الصمت هو من يلقي بظلاله على الكلام كما يقول إديف وارتون، الصمت الذي يخبر عنه ميخائيل نعيمة: "إنكم لا تستطيعون أن تترنموا بالأناشيد حتى تشربوا من نهر الصمت"، الكاتبة هبة البيتي ابتدأت العلاقة بينهما، كأطياف هلامية، تتلاقى لتصبح بالشكل المحسوس الذي ينطلق منه، إلى عالم آخر، سواء إلى الدراما، أو إلى المسرح.
القاصة خديجة الحربي لم تتوقف عند المصطبة الأولى بتداخلاتها، وضبابيتها، بل باشرت تجربتها فقالت: "بالنسبة لي، حضور إحداهما يستحضر الأخرى. عندما أرغب في الكتابة، أستعين بموسيقى هادئة جداً كخلفية لتساعدني على "التشفّف"، ومن ثم "التماهي" مع الكتابة لآخر نقطة. أشعر وأنا أستمع إليها بأنني "أسرّب" روحي من خلال الكلمات بكثافة تجعلني أعترف بأنني لا أكون شفافة وصادقة مع أي أحد وفي أي وقت بالقدر الذي أكونه خلال الكتابة! في المقابل، عندما أستمع للموسيقى تراودني رغبة ملحّة في الكتابة عن أي شيء.. أي شيء!" فهي علاقة تبادلية، تتداخل وفق خطوط خارجية في الورقة والموسيقى لتتشابك مع الخيوط الداخلية في ذات الفنان، منتجاً نكهة أخرى في التذوق القرائي، ينعكس جلياً كحالة على القارئ الواعي.
الشاعرة إسراء أحمد تصف التجربة فتقول: "حين أستمع لأي موسيقى وخصوصاً الموسيقى الهادئة، أرسم أكثر من طريق للمعنى، أحياناً هناك أسلوب تخييلي، وأحياناً هناك أسلوب مرئي متحرك، لكل من هذين الأسلوبين خاصيته في الداخل، ومن ثم في الطريقة التي يمكن منها معالجة النص الكتابي عندي، فالموسيقى هي الجذر، ومن ثم تتبلور الفكرة التي تنطلق من الموسيقى، وفق انثيالها الذي أدركه أول السماع وفي وسطه وآخره، لكن قد لا تمتد المقطوعة لتتعدى فترة مخاض الفكرة، فتتقاطع أكثر من رؤية لتصدر فكرة غريبة، أجدها مجدية في كتابة يومياتي، والأفكار الغرائبية، والفنتازيا عموماً".
فاتكاء إسراء هو على اللحظة، اللحظة التي تتمدد بصورة أفقية، لتصل إلى النواة الأخيرة للنص، وهي اللحظة التي يحكي عنها نصير شمة: "لحظة الموسيقى هي أجمل اللحظات التي تطالنا، هي خلاصة وعينا الروحي والفكري معاً، فالخبرة الموسيقية تحتاج إلى وعي أقصى، تحتاج إلى كلنا مجتمعين، وأعني بكلنا هو نحن بما جبلنا فيه من وعي تراثي وحضاري وإنساني وتاريخي وحياتي، وفي المحصلة وعي تجربتنا بالكامل. فنحن نتلقى الموسيقى ونتذوقها تبعاً لملكاتنا الفكرية الأعمق، وإذا امتلأنا بالموسيقى نصبح قادرين على الطيران بعيداً في أرض هي الأجمل، أرض أحلامنا التي تنمو في دواخلنا وتسطع كشمس نلمح بريقها في عيوننا".
الشاعرة ريم اللواتي ترى أن كلا الجنسين عدم، يتولدان بصورة تراتبية، يعضد أحدهما الآخر، للظهور في وضعية المرئي، والحسي، ليصل إلى النقطة الأعلى في الصدور. 
فالوقوف على حالة حربائية كهذه لا تدعو إلى المزيد من التأمل، ومراجعة التذوق والتنظير من جديد، للوصول إلى حكم  يمكن أن نعول عليها ذهنية جامعة لأكثر من محاولة وجودية للفن، وهو الذي ختمت به الكاتبة هبة البيتي حديثها:
"في النهاية، لا أستطيع أن أتملّص من صورة الدائرة التي تقذف بي نقطة بدايتها إلى نهايةٍ تدور وأبداً لا تنتهي. هناك حيث تبدأ الكلمة لتُحاوِر النغمة وتُحاوِل أن تجعلها في متناوِل محدودية اللغة، لِتخطف النغمة الكُرة وتبدأ في سَلخ الكلمات من معانيها وتطويعها لآفاق المطلق".

الأكثر قراءة