توظيف المبتعث بين الشهادة والخبرة و لبن العصفور

توظيف المبتعث بين الشهادة والخبرة و لبن العصفور

في لقاء مع رجل الأعمال الشيخ سليمان الراجحي في الغرفة التجارية قبل عدة سنوات سئل عن أهمية الخبرة والشهادة فقال فيما معناه: ''الشهادة والخبرة مثل الخطين المتوازيين إذا استطعت أن تحصل عليهما فخير كثير لكن لا يغني أحدهما عن الآخر''، هذا كلام صادر من رجل أعمال صنع إمبراطورية أعمال متنوعة تقدر بالمليارات، لكنه حاصل على شهادة الصف الثالث الابتدائي فقط ومع ذلك يقدر الشهادة والتعليم!!

وبتحليل مسيرة الشيخ وأعماله نجد في فريقه كثيرا من الخبراء المتخصصين وذوي الشهادات العالية وأحدث التقنيات والأنظمة، لكنني أعتقد أن تميزه ـــــ بعد توفيق الله ــــ لم يكن لا بالشهادة ولا بالخبرة بل بشيء آخر أذكره لاحقا وهو غائب عن كثير من إدارات التوظيف ويصعب قياسه أو الاعتماد عليه إلا من خبراء الموارد البشرية وليس مجرد موظف لا يعرف من الموارد البشرية إلا اسمها الرنان!

والحقيقة أن كثيرا من آمال وطموحات ''الشباب'' قد حطمت بالارتطام بحجة ''غياب الخبرة''، و كذلك فإن كثيرا من أصحاب الخبرات المميزة و الطموحات العالية قد حجرت مسيرتهم الوظيفية وحوصرت حياتهم بسبب ''غياب الشهادة'' وبتنا في دوامة البيضة والدجاجة بل الشهادة والخبرة.

بالنسبة لي أعتقد أن ''المعرفة'' أهم من الشهادة والخبرة وعذرا على هذه المفاضلة لأن المعرفة لا تأتينا إلا من خلال الدراسة التي تنتهي بشهادة أو العمل الذي يولد خبرة لكننا نغفل عن الأساس بترديد عبارات ووضع مقاييس تغيب عنها المرونة إلا في حالات الاستثناءات التي غالبا ما تكون ''بالواسطة'' من أجل مجاملة شخص على حساب المنظمة!

الهدف الأساسي من الدراسة أصلاً هو الاستفادة من الخبرات المتراكمة وتحليلها وتمحيصها ثم وضعها في ''منهج'' معين وإحضار أصحاب معرفة معينة ــــ المدرسين ــــ إيصال المعلومة إلى المتعلمين وتوضع الاختبارات للتمحيص ووضع مقاييس وتتميز الدراسة بأنها تعتمد على تجارب الآخرين وتكون موثقة وصحيحة في الغالب وتعطي آفاقا أوسع للطالب للإبداع و التحليل ثم التطبيق .

لكن يعيب الدراسة قلة التطبيق العملي فهي تركز على احتمالات و خيارات كثيرة وتبقي المسؤولية على المتعلم للتطبيق وهنا تأتي مشكلة أخرى أن المتعلم إن لم يكن حاذقا فإنه قد يحصل على الشهادة لكن دون فهم عميق أو قدرة على التطبيق أو ربما خوف من التطبيق وهذه ليست مشكلة خاصة فكلنا يعاني الفجوة بين ما يعرف وما يستطيع تطبيقه في كل مجالات حياتنا.

أما الخبرة فهي معرفة تراكمية وهنا لا بد من التفريق بين الخبرة وعدد السنوات لأنك قد تقضي سنين عديدة في العمل نفسه دون إضافة بل عمل سنة كرر عشر سنوات فتكون الخبرة سنة وعدد السنوات عشرا.

الخبرة أكثر واقعية وتعطي الإنسان ثقة أكبر لكنها محدودة بالأشياء التي عملنا عليها وبتطور الأنظمة والأجهزة تصبح الخبرة منتهية الصلاحية لأننا بتنا نواجه بتغيرات جذرية في كثير من القطاعات تجعل من خبراتنا السابقة ــــ أحيانا ــــ مجرد ذكريات.

يعيب الخبرة أيضا أنها محدودة المعرفة ومرتبطة كثيرا بالواقع دون الخروج من الصندوق والإبداع وكثيرا ما حاولنا تجريب أشياءنا القديمة كمفاهيم أو ربما أجهزة على التغيرات الجديدة وبهذا تكون الخبرة عائقا ضد التقدم.

تستغربون كثيرا إذا علمتم ــــ هنا في إحدى الدول الصناعية الكبرى ــــ أن هناك من يصلون إلى مناصب عليا في الشركات وهم لا يملكون من الشهادات إلا الثانوية العامة لكنهم كانوا يتطورون معرفيا بالتدريب والاحتكاك بأصحاب الشهادة والخبرة وربما عادوا للدراسة بعد عقد أو أكثر لدراسة الماجستير دون الحاجة إلى أن يعيدوا اختراع الذرة بل تعادل جزء من خبراتهم بالشهادة الجامعية و لم تغنهم عشر أو عشرون أو حتى ثلاثون سنة من الخبرة عن المعرفة التي تأتي من الشهادة بل أوقفوا أعمالهم لطلب العلم والحصول على الشهادة للمعرفة وليس للبرستيج!

إذا ما علاقة موضوعي هذا بسلسلة مذكرات مبتعث؟

أعتقد أنني أتحدث في صلب الموضوع فأنا و زملائي المبتعثون نتعلم معارف جديدة و نحتك بحضارة سبقتنا ونختلط بشعوب الأرض المختلفة ونطمح أن نعود إلى وطننا الغالي بهذه الشهادة والمعرفة الجديدة لكي نطبق ونعطى الفرصة في بلد، العالم كله يقف احتراما لاقتصاده الذي أصبح من أهل العشرين لكننا نخشى ''وهما وحقيقة'' من الارتطام بمصطلحات خطيرة يسهل ترديدها ويصعب فهم أبعادها لأن التوظيف لدينا لم يواكب هذا التقدم، فالعملية تسير كالتالي: السيرة الذاتية تتصفح و أتمنى أن تقرأ، ثم إن تخطت هذه المرحلة يتم عمل مقابلة شخصية وبعدها عرض الراتب ثم التوظيف وربما كان الاعتذار قبل أي منها!

و الحلقة الأصعب تكمن في المقابلة لأنها تعمل بطريقة ''بدائية جدا'' وأعلم ما أقول من خبرة و معرفة و مشاهدات لأن هذا المجال بحر كبير يحتاج إلى مختصين لكي يستقرئوا ما هو أهم من ''الشهادة'' و''الخبرة'' ألا وهو سر نجاح الشيخ سليمان الراجحي وغيره من الناجحين وأقصد ''الشخصية'' ـــ Attitude ـــ وفي لقاء مع عدة رجال أعمال ورؤساء الشركات الذين كانت تحضرهم الجامعة كنت أكرر السؤال نفسه: عند اختيارك فريقك بأي شيء تبدأ الاختيار: الخبرة أم الشهادة أم الشخصية؟ فيكون الجواب منها دون تردد ''الشخصية أولاً''!
وبهذا تكون التركيبة المثالية ـــ دون ترتيب ـــ : (شخصية ـــ شهادة ـــ خبرة) لكن المشكلة أن الشخصية لا يمكن قياسها بسهولة بل تحتاج إلى مختصين لأن المقابلات علم قائم بذاته يستحق الاحترام لا أن يوكل إلى موظف تشعر بأنه يطلب منك ''لبن العصفور''!

عدد القراءات: 743

* "هذه المادة منتقاة من "الاقتصادية الإلكترونية" تم نشرها اليوم في النسخة الورقية"

الأكثر قراءة