نحن نعلم صغارنا الرشوة!
الرشوة تطورت تطورا كبيرا في الآونة الأخيرة، بحيث نجحت باحتراف في التخفي وخداع العين التي بدورها أعمت العقل عن زيفها وخداعها. وليس أدل على ذلك سوى مسميات الرشوة الحالية مثل: إكرامية، عرق جبين، سمسرة، عمولة ...إلخ. هذه المسميات وإن كانت بريئة في ظاهرها إلا أنها منتنة من داخلها. فإذا كان جيلنا يعي أن هذه المسميات هي عديد أوجه لوجه وأحد وهو الرشوة - ولو أني أشك في ذلك - فإنه وبالتأكيد ستكون هذه المسميات بعيدة كل البعد عن معناها الحقيقي في الجيل التالي. وكي تتضح خطورة الصورة ... علينا الاطلاع على قصة عبدة الأصنام ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، عندها نعي أننا بصدد تفشي أخطبوط قادم ببطء وبثقة ليطمس عقولنا بما يغرق به على عيوننا.
والرشوة ببساطة هي متاجرة الواحد منا بوظيفته أو موقعه لمصالحه الشخصية، مخترقا بذلك النظام والمعايير المجتمعية والدينية. وأحد أهم نواحي تفاقم الرشوة وانتشارها وسهولة فعلها هو فوضى المعيارية لدينا. فوضى المعيارية سببها الرئيس هو البعد عن إرجاع الأمور للدين. ولكن المعيارية ليست غبية لتجابه الدين مباشرة، بل التفت حوله وولدت أبناءها من الأسماء الجميلة الأخرى. فكلمة رشوة كلمة قوية جدا ومنفرة ومرجعية الحكم والنظر فيها منتهية، ولكن أن نقول عمولة، سمسرة ... فالأمر هنا يختلف بالنسبة لحكمنا. فنأخذها بشكل أهون وألطف. بالرغم من أن النتيجة واحدة إلا أن الكلمة فقط هي التي تغيرت. فعندما أقول لشخص تفضل هذه رشوة، فستجده ينفر أو يمتعض بينما لو تغير الكلمة إلى إكرامية أو عمولة ... فستجده يقبلها بوجه وقلب بشوشين! وعليه فالأمر ليس بالهين. فحتى ذوي العقول الراجحة بعضهم يقع فريسة لهذه المعايير السامة التي تحير عقل العاقل.
الفساد الإداري عبارة عن أفعى رأسها الرشوة. والراشي والمرتشي تتملكهم صفات خاصة بهم من الشخصية المهزوزة وعدم الرضا بما قسمه الله له. وأكثر ما لفت نظري تبريرا للرشوة هو: فهم المرتشي أن هذا المال الذي تسلمه هو حق من حقوقه!! وهنا نلاحظ كيف تجرأت المعايير في قوتها وسيطرتها على عقولنا. فبعد أن مسحت كلمة الرشوة بكلمة أخرى، سيطرت عليها بكلمة أقوى وهي كلمة ''هذا حقي''. إذن فعملية الإزالة والتنظيف والتطهير ستأخذ وقتا مع هذا المرتشي الذي ارتكزت حياته إلى الرشوة. والرشوة تمتد جذورها وأشواكها من الفقير وحتى الغني، فكلاهما متهم بهذه التهمة المنتنة. ولعل الظروف الاقتصادية والغلاء والفقر تعد أسبابا للرشوة، إلا أننا نجد أشخاصا مطحونين في أعمالهم ولكنهم لا يرتشون، لماذا؟ هؤلاء يملكون ضميرا حيا. ضمير ينبض بمراقبة الله. هؤلاء يتملكهم الرضا بالمقسوم ومتصالحون مع وضعهم واثقون بأنفسهم.
ونستطيع أن نقول إن أعظم سبب للرشوة هو المرتشي نفسه! والذي لا ينتهي عن عمله، فالجشع والطمع سيخلقان مبررات ومعايير أكبر وأقوى بالنسبة له ليجيز لنفسه الاستمرارية في عمله مشرعا لها الدخول مرضيا بذلك ضميره الحي الذي طمسه وأماته بكثرة المبررات الواهية مثل: غلاء المعيشة، هذا حقي، هذه مكافأتي، الفقر، لماذا هذا معه وأنا لا؟ ... إلخ. ولو أمعنا النظر لوجدنا أننا نعامل أطفالنا ونعلمهم أن يرتشوا! فمبدأ الثواب والمكافأة ( مادية أو معنوية) هي حصيلة المرتشي، كما أنها حصيلة الطفل الذي نعلمه كيف يفعل فعلا يكرهه لأجل أن ينال مكافأة، وأخطر شيء عندما يعمل الوالدان على مكافأة الطفل عندما يتوقف عن عمل سيئ أو مزعج، فيتعلم الطفل أن الأفعال المشينة والسيئة هي مصدر سهل للمكافأة، فيكبر كي يمارس الرشوة ليحصل على هذه المكافأة!
عدد القراءات:307