هيئة الاستثمار وتطلعات الناس

جرى لقائي بمحافظ الهيئة العامة للاستثمار عمرو الدباغ الذي أشرت إليه في المقالتين السابقتين قبل نحو شهرين. وقد اعتمدت في كتابة المقالتين السابقتين على ذاكرتي وعلى بعض رؤوس أقلام دونتها في حينه باعتبار أنه لم يكن لقاء رسميا. وقد كان تفاعل القراء مع المقالة السابقة كبيرا نظرا لأهمية الموضوع، وجاءت أغلب المداخلات بالأسماء الحقيقية لأصحابها مما أكسبها مصداقية وقيمة أكبر. وأنا على يقين أن مسؤولي الهيئة العامة للاستثمار سيستفيدون من هذه التعليقات، ونحن ننتظر منهم توضيحا على استفسارات القراء.
عندما حلت الهيئة العامة للاستثمار محل الدار السعودية للخدمات الاستشارية واطلع الناس على نظامها الأساسي، علقوا عليها آمالا كبيرة، مفترضين أن عهدا جديدا قد بدأ، وأنه سيفتح آفاقا واسعة أمام رؤوس الأموال الوطنية أولا، ثم أمام الاستثمارات الأجنبية المفيدة لاقتصادنا ثانيا. بيد أننا بتنا نخشى أن تكون جهود الهيئة قد انتهت من الناحية العملية إلي خدمة الأجانب أكثر مما فعلت للمواطنين، وإلى خدمة مشاريع أجنبية صغيرة أكثر مما أسهمت في جذب استثمارات مفيدة توفر سلعا وخدمات نوعية، وتسهم في تنويع دخلنا الوطني، أو تعمل على نقل مستوى متقدم من التقنية والمعرفة الحديثة، أو توليد مزيد من فرص العمل المناسبة للعاطلين من شبابنا المؤهل! لكننا لم نر رؤوس أموال أجنبية أقامت جامعات أو معاهد تقنية أو مستشفيات أو مراكز تأهيل متخصصة، أو أنشأت شركات الطيران، أو مجمعات صناعية. فأين هو الخلل؟
الحقيقة أنه مع احترامنا للتصنيفات الدولية، فإن المشاهدة على أرض الواقع أن اقتصادنا ما زال يعاني اختلالات هيكلية مالية واقتصادية وإدارية واجتماعية جوهرية، وكلها لها تأثير مباشر في البيئة الاستثمارية، التي ربما تحسنت ظاهريا بفعل تحسن أسعار النفط بالدرجة الأولى! ولعل هذا يفسر لنا سبب الإحجام الأجنبي عن الاستثمار في قطاع الخدمات الصحية والتعليمية والسياحية وغيرها.
صحيح أن الهيئة ربما حاربت من أجل التخفيف من بعض تعقيدات الجهاز البيروقراطي الحكومي، بيد أن ذلك أتى أيضا لصالح المستثمرين الأجانب أكثر مما كان لصالح المستثمرين السعوديين! فعلى سبيل المثال، يتساءل كثيرون ماذا فعلنا لتحسين بيئة العمل للمنشآت الصغيرة والمتوسطة في اقتصادنا؟ هذه المنشآت التي تمثل العمود الفقري لمؤسسات القطاع الخاص، فعددها بلغ نحو 170 ألف منشأة، وهي تمثل نحو 90 في المائة من إجمالي مؤسسات القطاع الخاص، كما تسهم بنحو 35 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وتعد مصدرا مهما للوظائف والخدمات. ومع ذلك فهي تعاني مصاعب إدارية وتنظيمية متعددة وتعاني تعرضها لإرهاب الفساد الإداري وتضارب الاختصاصات عند تعاملها مع الأجهزة الحكومية، فضلا عن صعوبة الحصول على التمويل عند تعاملها مع الجهاز المصرفي، وبالعموم هي تعاني إهمال النظر في مشاكلها والتصدي لها.
من ناحية أخرى، يرى بعض المراقبين أن الأرقام الإجمالية التي تنشرها الهيئة في حاجة إلى تمحيص ومراجعة، فالمهم يكمن في التفاصيل. ويبدو أن هيئة الاستثمار ضنينة عموما فيما يتعلق بنشر تفاصيل المعلومات، مثل حجم ونوع وطبيعة الاستثمارات الأجنبية التي منحت لها تراخيص.
أما حصول المملكة على المرتبة الـ 13 بين دول العالم من حيث سهولة أداء الأعمال، وعلى المرتبة الـ 28 وفقا لمعيار التنافسية الدولية فهو أمر يدعو للارتياح. فكلنا نسعد بأي تقدم تحرزه البلاد في ميدان التنافس الدولي بصرف النظر عن المعايير والجهات التي تبنته. صحيح أن المملكة تحقق تقدما في مجال استقطاب الاستثمار الأجنبي، ولكننا في حاجة إلى سياسات رديفة لتوجيه هذا الاستثمار إلى القطاعات التي تحقق أكبر قدر من الروابط الأمامية والخلفية في الاقتصاد السعودي، وفي المناطق التي يفضل تنميتها، وذلك بهيكل حوافز مناسب.
لكن في كل الأحوال علينا وضع هذه نتائج هذه التصنيفات في مكانها الصحيح دون تضخيم، ودون سحبها للتغطية على بعض المؤشرات السلبية ذات الوزن النسبي الأعلى. فذلك قد يعطي انطباعا خاطئا عن الواقع الكلي لاقتصادنا بما لا يتوافق مع الحقيقة. فنحن قد ننجح مثلا في أن نكون أكبر دولة جاذبة للاستثمار من حيث القيمة الإجمالية، لكن عندما ننسب ذلك لعدد السكان أو للدخل القومي، فمن المحتمل أن تتفوق علينا دول أصغر منا.
وما نخشاه هو أن بعض المؤسسات الحكومية بدأت تتنبه في الآونة الأخيرة إلى أن العامل الحاسم في موضوع التصنيف الدولي، هو كيفية إعداد البيانات والمعلومات وتقديمها لهذه المنظمات الدولية. فنشطت في إعداد بيانات نظرية صرفة تختلف عما يجرى على أرض الواقع. ولذلك فوجئ المراقبون عندما لاحظوا قفزة هائلة وسريعة في ترتيب المملكة وفقا لبعض هذه المؤشرات تفوق أساسا قدرة هذه الأجهزة على إحداث التغيير بهذه السرعة! فلا عامل الوقت ولا عامل تخلف البيئة العامة يسمح بهذه القفزة السريعة التي جعلتنا نتجاوز دولا كبرى وعريقة في هذا المضمار (كاليابان وبريطانيا)، في حين أن المستفيد المحلي لم يلمس مثل هذا التطور على أرض الواقع. والحقيقة أن هذه لعبة خطيرة لأنها قد تصور لصناع القرار حدوث تغيير حقيقي فيما هو تغيير نظري.
والحقيقة أن تطوير بيئة الاستثمار عمل أكبر من مجرد تسهيل أداء الأعمال. فالأول يشمل دائرة أوسع تغطي مجمل الأوضاع الاقتصادية والمالية والقانونية والسياسية والاجتماعية في مجتمع ما. وينظر بناء على ذلك، في مدى قدرة الأجهزة الحكومية على تحرير الأسواق ومنح قوى العرض والطلب المرونة اللازمة والكافية لتشجيع الاستثمارات بشقيها المحلي والأجنبي من أجل تحقيق نمو اقتصادي مستدام يتجاوز نمو السكان.
من ناحية ثالثة، يبدو أن الهيئة قد تجاوزت في بعض الأوقات ، دورها الإشرافي إلى دور تخطيطي لبعض السياسات الاقتصادية. فقد أوشكت أن تباشر (إن لم تكن قد باشرت) القيام بعض الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية الضخمة منذ تبنيها فكرة المدن الاقتصادية، وهي أنشطة في حاجة للتأكد من جدواها التنافسية وقدرتها على المساهمة في تحقيق التنمية المستدامة. ولذلك ربما كان من الأولى لهيئة الاستثمار أن تختار إما أن تتولى مهمتي الإشراف والتنفيذ فتؤسس شركات عملاقة كم فعلت دبي، أو تقلص دورها كجهة إشراف ومتابعة. فقد أثبت الدراسات الميدانية التي أجريت على تجارب التنمية الناجحة، أن من أهم أسباب النجاح وضوح الرؤية والقدرة على ترتيب الأولويات.
لكل هذا، هناك حاجة - كما قال الزميل فواز الفواز في مقال سابق له عن الهيئة نشر في هذه الصحيفة – ''لإعادة تأهيل الهيئة وتحديد دورها بدقة مع أهمية خضوعها لجهة رقابية. أما أن تترك تلك «القبائل» البيروقراطية في الجهاز الحكومي تعمل بنصف أدوارها وتنتهج سياسات ضبابية، وتقدم أداء ضعيفا، فهذا لن يخدم اقتصادنا ولن يعطي المستثمرين المحليين والأجانب، الانطباع الصحي عن طبيعة مؤسساتنا وسياساتنا الاقتصادية''.
حان الوقت لإجراء تقييم ومراجعة لتجربة الهيئة، لتحديد العائد الفعلي على البلاد من إنجازاتها ومقارنة ذلك بتكاليفها ودراسة الخيارات والبدائل الاقتصادية الأخرى الممكنة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي