تقرير السيد جعفر البرزنجي في تأسيس مطبعة في المدينة المنورة
ضمن الوثائق النادرة التي حصل عليها الباحث من الأرشيف العثماني، إشعار أرسله الباب العالي إلى إمارة مكة المكرمة وولاية الحجاز بشأن التقرير المقدم من السيد جعفر البرزنجي، وبناءً على أهمية هذا الموضوع الذي ورد في تصنيف دفاتر العينيات في الأرشيف العثمانيAyniyat defteri. no.873. sy.239,250,260، إذ إنه يكشف النقاب عن المحاولات التي بذلت من أحد أعيان المدينة المنورة في تأسيس مطبعة عربية بها قبل تأسيسها بصفة رسمية في مكة المكرمة. فقد رأينا إدراج ترجمة الإشعار المذكور ثم تحليله بشكل مقتضب، وتاريخ ذلك الإشعار المرسل من الباب العالي إلى إمارة مكة المكرمة وولاية الحجاز 13 ربيع الأول 1291هـ (3/4/1874م)، و 16 جمادى الآخرة 1291هـ (30/7/1874م)، وترجمة النص العثماني على النحو الآتي:
"بناءً على المعروض الذي قدمه مفتي الشافعية في المدينة المنورة السيد جعفر البرزنجي أفندي، الذي ذكر فيه أنه بالنظر إلى فقدان وجود الرسائل الدينية والأخلاقية اللازمة لتدريس الطلبة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وبما أن جلبها من إستانبول يكلف مصاريف باهظة، فقد طلب تأسيس مطبعة في المدينة المنورة، لتقوم بطبع الرسائل المنتخبة في مبادئ العلوم الدينية والأخلاقية، وذلك بجلب الأدوات اللازمة للطباعة والحروف وغيرها من الأجهزة والمتطلبات، على أن: يرسل شخص مرتِّب "فني"، وتأسيس مدرسة رشدية "متوسطة" في المدينة المنورة، وتأسيس حوالي عشر مدارس عادية "ابتدائية" بين الحرمين الشريفين لتعليم العربان القاطنين فيها، وتعيين المدرسين فيها بحيث يدفع للواحد منهم شهرياً مبلغ مائتي قرش. وبناء على ذلك المعروض فقد جرى الاتصال مع نظارة المعارف الجليلة التي ذكرت في خطابها الجوابي "أنه على الرغم من أن القيام بتأسيس العدد المطلوب من مدارس الصبيان "المدارس الابتدائية" في الأماكن المناسبة من القطر الحجازي، وتأسيس مدرسة رشدية "متوسطة" في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة من الأمور اللازمة، إلا أنه بسبب عدم ورود أي إشعار من إمارة مكة المكرمة العالية وولاية الحجاز الجليلة، إضافة إلى أن تأسيس المطبعة المذكورة مع الأجهزة المطلوبة تكلف مبلغ ثلاثمائة قرش، فهل هناك حاجة إلى تأسيس مطبعة على النحو المذكور في المدينة المنورة؟ وهل هناك حاجة إلى تأسيس مدرسة رشدية في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة؟ وكذلك مدارس الصبيان في الأماكن المناسبة من القطر الحجازي؟ وإذا كانت هناك حاجة إلى ذلك، فأين ستؤسس تلك المدارس؟ وما هي المبالغ المطلوب دفعها لمدرسيها؟ فقد وجدت الحاجة في قيام سيادتكم (أي أمير مكة المكرمة) مداولة هذا الموضوع مع جناب الوالي المشار إليه (أي والي الحجاز)، كما طلبت المعلومات المذكورة من جنابه أيضاً، وبذل الهمة في إبلاغنا بذلك".
وقد أرسل الباب العالي إشعاراً آخر إلى ولاية الحجاز وإمارة مكة المكرمة في 16 جمادى الآخرة، أكد إشعارها الأول، طالباً الرد عليه، حيث لم يصل الرد على الموضوع حتى حينه. ولم يتبين للباحث ردهما من خلال تصفح دفتر العينيات رقم 873 الذي أورد المراسلات المذكورة إليهما، كما لم يتضح له من خلال ما اطلع عليه من الوثائق العثمانية المحفوظة في تصنيفات أخرى من الأرشيف العثماني. ومهما يكن من أمر فإن فحوى الوثائق الجدير بالبحث والدراسة، قد أكد عدة موضوعات مهمة يمكن استخلاصها من تحليل الوثيقة المعروضة بعاليه على النحو الآتي:
مقدم الطلب
مقدم الطلب هو السيد جعفر البرزنجي، وهو من السادة الكرام من أعيان المدينة المنورة والشخصيات البارزة فيها. وقد تبين من الوثيقة أنه كان مفتي الشافعية في المدينة المنورة. كما بينت ذلك وثائق عثمانية أخرى1، أشارت إلى أنه حصل على الوسام المجيدي من الدولة العثمانية عام 1287هـ (1870م)2، تقديراً من الدولة العثمانية لمكانته العلمية والاجتماعية.
موضوع المعروض
اقترح السيد جعفر البرزنجي في معروضه تأسيس مطبعة في المدينة المنورة بناءً على الحاجة إليها، حيث لم يكن في المدينة المنورة ولا في مكة المكرمة في عام 1291هـ (1874م) مطبعة، ولاسيما أن الكتب الدينية والأخلاقية التي يحتاج إليها الطلاب في المدارس الابتدائية كانت تجلب من إستانبول، وفي جلبها مشقة كبيرة نظراً لبعد المدينة المنورة عن إستانبول، إضافة إلى المصاريف الباهظة التي تكلفها عملية النقل. وبناءً على ما سبق فإن الهدف من تأسيس المطبعة طبع الكتب الدينية المبسطة للطلاب في مكة المكرمة والمدينة المنورة وتوفيرها. وقد طلب السيد البرزنجي في اقتراحه إرسال الأجهزة والأدوات اللازمة للمطبعة من إستانبول، مع انتداب أحد الفنيين منها أيضاً لتأسيس المطبعة في المدينة المنورة وتشغيلها.
كما عرض أيضاً اقتراحاً ثانياً هو تأسيس مدرسة متوسطة في المدينة المنورة. وما ذكره الباب العالي في إشعار إلى ولاية الحجاز: "تأسيس مدرسة متوسطة في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة"، ما يوحي بعدم وجود المدارس المتوسطة النظامية في تلك الفترة في الحرمين الشريفين.
أما الاقتراح الثالث الذي عرضه السيد البرزنجي في معروضه الذي قدمه إلى الباب العالي، فهو تأسيس بعض المدارس الابتدائية في الأماكن التي تقطنها القبائل العربية ما بين الحرمين الشريفين، ومما يجدر ذكره هنا أن وثيقة عثمانية سبق أن نشرها الباحث3، بينت تجربة إمارة مكة المكرمة وولاية الحجاز في تعيين بعض المدرسين والفقهاء في بعض الأماكن التي تقطنها القبائل في منطقة مكة المكرمة عام 1284هـ/1868م، ولاسيما في تثقيفهم وتوعيتهم بالأمور الدينية ومبادئ القراءة والكتابة4.
موقف الباب العالي من معروض السيد البرزنجي
بعد وصول المعروض إلى الباب العالي اتصل بنظارة المعارف، للحصول على رأيها في الموضوع، وهل المنطقة في حاجة إلى المدارس والمطبعة أم لا؟ فأفادت في خطابها الجوابي أن الحاجة ماسة إلى ذلك، لكن لا بد من استفسار إمارة مكة المكرمة وولاية الحجاز عن الموضوع، لأنهما تشكلان الحكومة المحلية في المنطقة، إلا أنهما لم تردا على إشعار الباب العالي، الذي أرسل إليهما إشعاراً آخر بعد شهرين تقريباً (16 جمادى الآخرة 1291هـ) من الإشعار الأول (13 ربيع الأول 1291هـ). وهذا في الحقيقة يدل على تقصير إمارة مكة المكرمة وولاية الحجاز ليس فقط في الاهتمام بالجوانب الثقافية للمنطقة، بل حتى في الرد على إشعار الباب العالي المبني على اقتراح السيد البرزنجي، ومن هنا فإن هذه الشخصية الفذة الذي كان يمثل العلماء والأهالي في المدينة المنورة، وليس الحكومة المحلية في الحجاز، كان صاحب نظرة شاملة لمنطقة الحجاز، ساعياً إلى تثقيفها من خلال توفير أدوات التثقيف، وهي في تلك الفترة المطبعة والمدرسة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأرشيف العثماني، تصنيف Ayniyat defteri.no.871.sy.55,146,258
2 مداخل بعض أعلام الجزيرة العربية في الأرشيف العثماني/سهيل صابان.- الرياض: مكتبة الملك عبد العزيز العامة، 1425هـ/2004م. ص 31
3 مكة المكرمة والمدينة المنورة: بحوث ودراسات من وثائق الأرشيف العثماني/سهيل صابان.- الرياض: مكتبة الملك عبد العزيز العامة، 1426هـ/2005م.
4 الأرشيف العثماني، تصنيف Irade-Sura-i Devlet. 568