إما شرقا وإما المجاعة

إما شرقا وإما المجاعة

إن الفكرة القائلة إن مركز الثقل الاقتصادي للعالم يتجه شرقا ليست جديدة, إلا أن الأزمة المالية العالمية، كما يقول كثيرون، أعطت تحول القوة الاقتصادية من أمريكا وأوروبا الغربية نحو آسيا دفعة كبيرة. فقد انتعشت آسيا الناشئة من الركود بشكل أسرع بكثير من العالم المتقدم؛ أنظمتها المصرفية وديناميكة الديون فيها أقوى بكثير. وفي عام 2009، تفوقت الصين على ألمانيا لتصبح أكبر دولة مصدرة في العالم. ويبدو محتملا الآن أن تصبح أكبر اقتصاد في العالم خلال عشر سنوات. ولكن إلى أي مدى اتجهت القوة بالفعل تجاه آسيا؟
لا شك أن المنطقة أصبحت أكثر أهمية بالنسبة للمصرفيين ورجال الأعمال، حيث تمثل حصة كبيرة من أرباح كثير من الشركات العام الماضي. وانتقل عديد من كبار المديرين التنفيذيين إلى آسيا، وآخرهم الرئيس التنفيذي لبنك HSBC، Michael Geoghegan، الذي انتقل رسميا من لندن إلى هونج كونج في الأول من شباط (فبراير). ومنذ عام 1995، نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لآسيا (حتى مع شمل اليابان الأقل نشاطا) بسرعة تزيد على ضعف سرعة نموه في أمريكا أو أوروبا الغربية. ويتنبأ Morgan Stanley أن ينمو بمتوسط يبلغ 7 في المائة هذا العام والعام المقبل، مقارنة بنسبة 3 في المائة لأمريكا و1.2 في المائة لأوروبا الغربية. إلا أن دراسة الأرقام من كثب تشير إلى أن تحول القوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق قد يكون مبالغا فيه. فقد انخفضت الحصة الإجمالية لآسيا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (من حيث القيمة الاسمية بأسعار الصرف في السوق)، من 29 في المائة عام 1995 إلى 27 في المائة العام الماضي، وكان أحد أسباب ذلك انخفاض العملات. وفي عام 2009، تجاوز مجموع الناتج المحلي الإجمالي لآسيا ذلك في أمريكا لكنه كان لا يزال أقل قليلا منه في أوروبا الغربية (على الرغم من أنه قد يتجاوزه هذا العام). وبعبارة أخرى، لا يزال ناتج الغرب الغني أكبر بضعفين تقريبا عنه في الشرق.
أما بالنسبة للاعتقاد الشائع بأن المنتجين الآسيويين يستولون على حصة متزايدة من الصادرات، لم تكن حصة المنطقة من الصادرات العالمية العام الماضي، التي بلغت 31 في المائة، أعلى كثيرا عنها في عام 1995 (28 في المائة) ولا تزال أصغر منها في أوروبا الغربية. وفي الواقع، يبدو أن التحول نحو آسيا قد تباطأ، ولم يتسارع. فقد زادت حصتها من الناتج العالمي والصادرات العالمية خلال الثمانينيات وأوائل التسعينيات. وعلى الرغم من أن حصة الصين تتزايد منذ ذلك الحين، إلا أنه يقابلها تراجع في اليابان، التي انخفضت حصتها من الناتج والصادرات إلى النصف.
وماذا عن قوة آسيا المالية؟ تمثل أسواق البورصة الآسيوية 34 في المائة من الرسملة السوقية العالمية، متقدمة على أمريكا (33 في المائة) وأوروبا (27 في المائة). وتحتفظ البنوك المركزية الآسيوية أيضا بثلثي جميع احتياطات العملات الأجنبية. ويبدو هذا مثيرا للإعجاب، إلا أن تأثيرها في الأسواق المالية العالمية أكثر تواضعا، لأن الاحتياطات الرسمية لا تشكل سوى نحو 5 في المائة من المخزون العالمي من الأصول المالية. ولا تزال معظم ثروة القطاع الخاص موجودة في الغرب. وتشير حقيقة أن العملات الآسيوية تشكل 3 في المائة فقط من احتياطات العملات الأجنبية الكلية إلى مدى تخلف آسيا في الأمور المالية.
إلا أن ''ارتقاء آسيا'' ليس أسطورة, فأرقام الناتج المحلي الإجمالي التي يتم تحويلها بأسعار الصرف السائدة في السوق تقلل من أهمية التوسع الحقيقي لآسيا. فقد تراجع كثير من العملات خلال الأزمة المالية الآسيوية في أواخر التسعينيات، ما خفض قيمة الدولار لاقتصاداتها. وانخفض الناتج المحلي الإجمالي الاسمي لليابان بسبب الانكماش. والأهم من ذلك، فإن أسعار العديد من المنتجات المحلية، من المنازل إلى قصات الشعر، أرخص دائما في الدول ذات الدخل المنخفض، ما يعني أن القوة الشرائية الحقيقية للأسر أكبر. وإذا تم بدلا من ذلك قياس الناتج المحلي الإجمالي بمعادل القوة الشرائية من أجل وضع هذه الأسعار الأقل بعين الاعتبار، ترتفع حصة آسيا من الاقتصاد العالمية بشكل مطرد أكثر، من 18 في المائة عام 1980 إلى 27 في المائة عام 1995 و34 في المائة عام 2009. ووفقا لهذا المقياس، من المرجح أن يتفوق الاقتصاد الآسيوي على إجمالي مبالغ الاقتصاد الأمريكي والأوروبي خلال أربعة أعوام. ومن حيث معادل القوة الشرائية، فإن ثلاثة من أصل أكبر أربعة اقتصادات في العالم (الصين واليابان والهند) هي بالفعل في آسيا، وقد مثلت آسيا نصف نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي خلال العقد الماضي.
ويقول بعض الاقتصاديين إن مقاييس معادل القوة الشرائية تبالغ في النفوذ الاقتصادي لآسيا. وما يهم حقا بالنسبة للشركات الغربية هو الإنفاق الاستهلاكي بأسعار الدولار. وعلى الرغم من أن أكثر من ثلاثة أخماس سكان العالم يعيشون في آسيا، إلا أنهم لا يشكلون سوى أكثر من نسبة الخمس من الاستهلاك الخاص العالمي، وهي نسبة أقل كثيرا من نسبة أمريكا البالغة 30 في المائة. إلا أن الارقام الرسمية تقلل بالتأكيد من قيمة الإنفاق الاستهلاكي في آسيا الناشئة، بسبب التغطية الإحصائية السيئة للإنفاق على الخدمات. وتشير أرقام وحدة معلومات الإيكونوميست، وهي شركة شقيقة لصحيفة الإيكونوميست، إلى أن آسيا تشكل نحو الثلث من مبيعات التجزئة العالمية. وتعتبر آسيا اليوم أكبر سوق لكثير من المنتجات، حيث مثلت 35 في المائة من جميع مبيعات السيارات العام الماضي و43 في المائة من الهواتف المحمولة. وتستهلك آسيا 35 في المائة من الطاقة في العالم، بعد أن كانت النسبة 26 في المائة عام 1995. وهي تسهم بثلثي الزيادة في الطلب على الطاقة منذ عام 2000.
وكثير من الشركات الغربية أكثر اهتماما بالإنفاق الرأسمالي لآسيا من اهتمامها بالاستهلاك فيها، وهنا تبرز آسيا بصورة واضحة. ففي عام 2009، حدثت 40 في المائة من الاستثمارات العالمية (بأسعار الصرف في السوق) في آسيا، نسبتها نفسها في أمريكا وأوروبا مجتمعتين. وفي مجال التمويل، أصدرت الشركات الآسيوية ثمانية من أكبر عشرة عروض عامة أولية في عام 2009 وتم جمع رأسمال أكثر بنسبة الضعف عنه في أمريكا عبر العروض العامة الأولية في الصين وهونج كونج العام الماضي. قال ونستون تشرشل ذات مرة: ''كلما استطعت أن تمد نظرك إلى الوراء أكثر، تمكنت أن تنظر إلى مدى أبعد إلى الأمام''. إن النظام الاقتصادي الجديد هو في الواقع، عودة لنظام قديم جدا. فقد كانت آسيا تمثل أكثر من نصف الناتج العالمي لمدة 18 قرنا من القرون الـ 20 الماضية. وستزيد أهميتها في السنوات المقبلة. ومن المرجح أن تتقلص معدلات نمو الدول الغنية على مدى العقد المقبل لأن ديون الأسر الضخمة ستكبح الإنفاق ولأن ارتفاع الدين الحكومي وزيادة الضرائب ستقلل حوافز العمل والاستثمار. وفي المقابل، من المرجح أن يظل النمو في آسيا الناشئة (نحو أربعة أخماس من الناتج الإجمالي للمنطقة) قويا. ومن المتوقع أيضا أن يمنح النمو القوي الحكومات في اقتصادات آسيا الناشئة الثقة بحيث تسمح لعملاتها بالارتفاع، ما سيزيد حجم اقتصاداتها النسبي بأسعار الدولار. وبحلول عام 2020، قد تنتج آسيا نصف بعض مبيعات وأرباح الشركات الغربية الكبيرة متعددة الجنسيات، وتبلغ هذه النسبة اليوم 20-25 في المائة. وينتظر الموظفون الآسيويون بفارغ الصبر اليوم الذي يستطيعون فيه تحديد أوقات المؤتمرات الدولية عبر الهاتف، بحيث يضطر الأوروبيون والأمريكيون إلى تحمل المناقشات التي تحدث بعد منتصف الليل مع مكتب بكين. وقد يكون هذا أفضل اختيار لمعرفة فيما إذا كانت القوة الاقتصادية قد تحولت بالفعل نحو الشرق

الأكثر قراءة