الدبلوماسية الفظة

الدبلوماسية الفظة

في أوائل أيلول (سبتمبر) 1960، استضافت الحكومة العراقية مسؤولين من فنزويلا وثلاث دول من الخليج لعقد مؤتمر غامض لمدة خمسة أيام في بغداد. وأسسوا حينها منظمة الدول المصدّرة للنفط ''الأوبك''. وعلى مدى العقود الثلاثة التالية، ساهم العراق في قيادة هذه المنظمة النفطية مع تزايد العضوية وتنامي الناتج بصورة سريعة, إلا أن نفوذه تراجع عام 1990 حين غزا دولة مؤسسة أخرى، هي الكويت، وتعرض لعقوبات الأمم المتحدة. وعلى الرغم من أن العراق يمتلك ثالث أكبر احتياطيات النفط في العالم، إلا أن مكانته انخفضت إلى المرتبة الـ 13 في جدول الإنتاج الدولي. وأصبحت خطوط الأنابيب صدئة، وظلت الآبار مهملة، وهاجر المهندسون. ويحاول العراق الآن استعادة مجده، حيث يخطط لزيادة الإنتاج أربعة أضعاف أو أكثر. وقد يغير هذا صناعة النفط العالمية بشكل جذري؛ كما أنه يهدد إيران بنكسة كبيرة. فقد ساعدت العلاقات الوثيقة مع الصين، القائمة على تعطش بكين للنفط، إيران على تجنب العزلة بسبب برنامجها النووي. إلا أن شركات النفط الصينية تحول اهتمامها الآن إلى العراق، بدعم من أمريكا.
لكن يجب أن يحقق العراق هدفا غير مسبوق, ففي تاريخ صناعة النفط الحديثة، لم يسبق أن زادت أي دولة إنتاجها بالسرعة التي يتصورها العراقيون. وعلى مدى السنوات السبع المقبلة، يعتزم العراق زيادة الإنتاج من 2.5 مليون برميل يوميا إلى 12 مليون برميل يوميا. ولتحقيق هذه الغاية، وقع العراق عشرات الصفقات مع معظم أكبر شركات النفط في العالم. وبدأ بعضها العمل هذا الشهر.
وقد وضع وزير النفط، حسين الشهرستاني، خطة التوسع هذه. فقد تمكن من التوصل إلى اتفاق مبدئي مع BP الصيف الماضي، ما ضمن أن يحذو منافسوها الرئيسيون، Royal Dutch Shell وExxon Mobil، حذوها. وفي الوقت نفسه، عقد صفقات مع Lukoil من روسيا وشركة البترول الوطنية الصينية، ما منحه قوة إضافية. وتزامن عقد الصفقات مع تسعير لا يرحم. فقد أصر الوزير على أن تأخذ الشركات أقل من دولارين للبرميل، ما ترك معظم الأرباح، التي تقارب 95 في المائة، للدولة العراقية. وقطعت قدرة الوزير الهائلة على المساومة الطريق على معارضة العراقيين القوميين. فقد رحب كثير منهم، الذين يحتاجون بشدة إلى المال لبناء المدارس والمستشفيات، بالصفقات التي تم عقدها مع شركات النفط الأجنبية المكروهة، التي كان أسلافها يهيمنون في السابق على العراق. ويأمل الشهرستاني أن تتم إعادة انتخابه بسهولة في الانتخابات الوطنية في السابع من آذار (مارس), إلا أن التقدم سيكون أبطأ مما جعل الناخبين يعتقدون. فحتى الدولة المتقدمة ستبذل جهودا جبارة لإضافة عدد كاف من الآبار وخطوط الأنابيب للتعامل مع ما يعادل مجموع الإنتاج السعودي. وفي العراق المتهالك، من الصعب بصورة خاصة تحقيق خطط الشهرستاني. وستحتاج شركات النفط إلى بناء طرق معبدة من الصفر وستضطر إلى جلب كل المعدات الخاصة بها.
وستتفاقم مثل هذه التأخيرات اللوجستية جراء نقص القوى العاملة, فالصناعة تفتقر إلى عدد كاف من الخبراء المختصين المؤهلين. علاوة على ذلك، على الحكومة ربط حقول النفط الجديدة بمرافق التصدير. وهذا يعني وضع مئات الأميال من خطوط الأنابيب وبناء عدد هائل من محطات الضخ. وفي الوقت الحاضر، يتم إخراج معظم النفط العراقي من الدولة عبر محطة واحدة بالقرب من أم قصر في شمال الخليج العربي. وهي قديمة، وقد حذر الخبراء الأمريكيون أنها قد تعاني المشكلات. وتقوم شركات Foster Wheeler التي تعمل في خدمات النفط ببناء ثلاثة خطوط أنابيب إضافية وأربعة مراسي بحرية جديدة لناقلات النفط بالقرب من البصرة، إلا أن هذا لا يزال غير كاف. وهناك حديث عن تحديث خط أنابيب قائم إلى تركيا، لكن المفاوضات لم تبدأ بعد. وقد تم إغلاق خط أنابيب إلى سورية منذ سنوات وعرقلت الخلافات السياسية تجديده.
لكن على الأقل، العوائق السياسية أمام زيادة الإنتاج أقل صعوبة من العوائق الفنية. ومن المسلم به أن العراق ما زال يعاني التمرد وأنه ليس هناك قانون للنفط، ما يجعل الحكومة الحالية الضامن الوحيد للصفقات مع الشركات الأجنبية، وهناك خلاف حول ملكية النفط في المنطقة الكردية شمال الدولة، خاصة حول مدينة كركوك. إلا أن المخاوف من أن يؤدي ازدهار النفط إلى إثارة نزاع على السيطرة مبالغ فيها. فقد تسببت سنوات من الحرب الطائفية في معاناة كبيرة للعراقيين ما جعلهم يحاولون على الأقل تقاسم العائدات، كما تبين الميزانية الوطنية لعام 2010. وبعد كثير من النقاش وعديد من حالات التأخير، وافق البرلمان في 26 كانون الثاني (يناير) على أن تحصل المحافظات المنتجة للنفط على دولار إضافي لكل برميل مستخرج من الحكومة المركزية، التي تسيطر على الصناعة. ولتعويض المحافظات الفقيرة بالموارد، تم إنشاء إعانة خاصة للمناطق الحدودية. إضافة إلى ذلك، ستحصل المراكز الدينية على 20 دولارا لكل تأشيرة أو حاج زائر.
وليس هناك ما يضمن أن تهدئ هذه التسوية العنف في العراق. فقد يتعرض العراق لنكسة. إلا أن مصدر القلق الأكبر هو المعارضة المتزايدة لازدهار النفط في العراق من قبل جيرانه. وبمستويات الطلب العالمي الحالية، قد يؤدي تدفق النفط العراقي إلى تخفيض الأسعار ويجبر أعضاء آخرين في ''أوبك'' على خفض الإنتاج أكثر مما فعلوا خلال العام الماضي. ويدرك كثيرون أنه لا بد من التفاوض على حصة جديدة للعراق، ولكن من أين يجب البدء؟ فالحصة الأخيرة للعراق تعود إلى عام 1991، وقد كانت مماثلة لحصة إيران، حيث تبلغ ثلاثة ملايين برميل يوميا. وفي الماضي، وضعت ''أوبك'' العراق وإيران على قدم المساواة. إلا أن الشهرستاني طالب في وقت سابق من هذا العام بحصة إنتاجية كبيرة. وهو يقدم حجة مقنعة، حيث يقول إن العراق أنتج لعقود عديدة أقل من قدرته لذا فهو يستحق اللحاق بالركب.

الضغوط على إيران
لقد أصبح انزعاج إيران من إنتاج النفط العراقي أكثر وضوحا. فقد عارضت دول مثل الصين فرض مزيد من العقوبات على إيران بسبب برنامجها النووي، وأحد أسباب ذلك الخوف من تعريض إمدادات الطاقة الإيرانية للخطر. وقد تبدو هذه فجأة أقل أهمية. وتعاني صناعة النفط الإيرانية الافتقار إلى الاستثمار والتكنولوجيا. وهي في حاجة إلى المواهب والمال, بحيث إنه يبدو من المرجح الآن أن تنفق شركات النفط الكبرى بسخاء على العراق. وتعتمد إيران بصورة أكبر من جيرانها في الخليج على ارتفاع أسعار النفط الخام للحفاظ على الميزانية المزعزعة وشراء الدعم في الداخل. ولعل كل هذا يفسر الطلقة التحذيرية التي أطلقتها إيران في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، حين أرسلت الجنود عبر الحدود العراقية واحتلت لفترة قصيرة إحدى الآبار في حقل Fakka للنفط.
واكتشف آخرون مدى ضعف إيران. ويقول المسؤولون الأمريكيون إن أحد أهداف زيارة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، الدول العربية في الخليج هذا الأسبوع هو الطلب منهم طمأنة الزبائن الآسيويين أن بوسعهم تعويض أي انخفاض في إنتاج النفط الإيراني

الأكثر قراءة