سحب الأدوية

سحب الأدوية

تم حقن الاقتصاد العالمي بأكبر كوكتيل كينيزي في زمن السلم على الإطلاق. فقد ضخت الحكومة خلال الـ 18 شهرا الماضية المال في اقتصاداتها لمكافحة الأزمة المالية والركود. وخفضت البنوك المركزية أسعار الفائدة؛ واستكملت أكبر البنوك المركزية في العالم الغني الأموال الرخيصة جدا بدواء خاص، هو التخفيف الكمي. وخفض وزراء المالية الضرائب وزادوا الإنفاق العام.
وكان لهذا الكوكتيل تأثير كبير. فقد منع أكبر أزمة مالية منذ الثلاثينيات من التسبب بكارثة اقتصادية. واستقرت البنوك وانتعشت أسعار الأصول ولم يتحول الركود العالمي، على الرغم من أنه أعمق ركود منذ الحرب العالمية الثانية، إلى فترة كساد عظيم أخرى. وتختلف سرعة الانتعاش، إلا أن الاقتصادات الكبرى توقفت عن التقلص.
وعلى الرغم أن الاقتصاد العالمي خرج، وفقا لمعظم المقاييس، من غرفة العناية المركزة، إلا أنه ليس بصحة جيدة. فالاقتصادات الناشئة الكبيرة تنمو بقوة، إلا أن الانتعاش ضعيف في عديد من الاقتصادات الغنية، خاصة أوروبا. ولا يزال النمو يعتمد اعتمادا كبيرا على الحوافز الحكومية، على الرغم من اتضاح تأثيراتها الجانبية. وفي الصين، دعمت فورة الإقراض الضخمة الموجهة من قبل الدولة الطلب ولكنها تغذي أيضا فقاعات الأصول، خاصة في العقارات. ومع ارتفاع حالات عجز الميزانية للاقتصادات الغنية الكبرى إلى أكثر من أربعة أضعاف، لتصل إلى متوسط يبلغ 9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بدأ الدين العام بالارتفاع أيضا. وفي منطقة اليورو على وجه الخصوص، أصبح المستثمرون يشعرون بالقلق. وتشير الزيادة الأخيرة في عائدات السندات اليونانية والضغوط على البرتغال وإسبانيا إلى أن بعض الحكومات قد تفقد قريبا مجال زيادة الحوافز المالية.
ويترك كل هذا لصنّاع السياسة مهمة لا يحسدون عليها، وهي اتخاذ قرار بشأن متى وكيف يجب سحب الأدوية. وتتطلب ''استراتيجية الخروج'' إجابات لثلاثة أسئلة. الأول هو التوقيت: متي يجب أن يبدأ التشديد المالي والنقدي؟ والثاني هو التكتيكات: أيهما أهم، البدء عن طريق خفض عجز الميزانية أم عن طريق رفع أسعار الفائدة؟ والثالث هو الأسلوب: كيف ستبدأ البنوك المركزية، التي زادت ميزانياتها بسبب السياسات غير الاعتيادية في العام والنصف الماضي، بتشديد الأوضاع النقدية؟ وليس هناك إجابات سهلة لها.

لا يجب أن تبدأ من هنا
فلنبدأ بالتوقيت. يجب أن يتجنب صنّاع السياسة فعل الكثير جدا في وقت قصير للغاية، لأن من شأن ذلك أن يقتل الانتعاش الواهي، وأيضا تجنب فعل القليل جدا في وقت متأخر للغاية، الأمر الذي قد يؤدي إلى أزمات ميزانية وتضخم - أو إلى فوضى في أسواق السندات حيث يتوقع المستثمرون حدوث مشكلات. ويكون مسار العمل واضحا حين يكون الانتعاش قويا، كما هو الحال في الأسواق الناشئة والدول الغنية البعيدة عن مركز الأزمة المالية. ولا تملك اقتصاداتها الكثير من السعة الفائضة وليس لديها سبب لإبقاء السياسة النقدية أو المالية الطارئة. وليس من المستغرب أنها كانت أول الدول التي شددت سياساتها.
وزادت أستراليا وإسرائيل والنرويج أسعار الفائدة في أواخر عام 2009. وقبل شهر، رفعت الصين متطلبات الاحتياط للبنوك وبدأت بتضييق الإقراض. وحذا حذوها البنك المركزي في الهند، حيث رفع متطلبات الاحتياط في 29 من كانون الثاني (يناير). ويتم أيضا تشديد السياسة المالية. فالبرازيل والهند والمكسيك تخطط لخفض حالات عجزها هذا العام.
إلا أن هذه المهمة أصعب في الاقتصادات الكبيرة الغنية، حيث النمو لا يزال ضعيفا. وخطت البنوك المركزية الخطوة الأولى، بصورة أساسية عن طريق تخفيف تسهيلات السيولة الطارئة التي كافحت بها الذعر المالي. وتم إغلاق خمس من أصل سبع نوافذ إقراض في وقت الأزمة لمجلس الاحتياط الفيدرالي في الأول من شباط (فبراير). وتوقف البنك المركزي الأوروبي عن إقراض البنوك أموال غير محدودة لمدة 12 شهراً. وتم أيضا إغلاق خطوط مبادلة العملة التي أسستها البنوك المركزية بينها. وعملية التخفيف الكمي - إيجاد المال واستخدامه لشراء السندات - على وشك الانتهاء، أو على الأقل التوقف. وفي الرابع من شباط (فبراير)، قال بنك إنجلترا أنه سيوقف مشترياته من السندات البريطانية، على الرغم أن المحافظ، Mervyn King، قال أنه ''من المبكر جدا الاستنتاج أنه لن تبرز الحاجة إلى المزيد منها.'' وقلل مجلس الاحتياط الفيدرالي مشترياته من الأوراق المالية المدعومة بالقروض العقارية ويخطط لوقفها تماما بحلول نيسان (أبريل). وحدد رئيسه، بن بيرنانكي، الأدوات التي سيستخدمها في شهادته أمام الكونجرس في العاشر من شباط (فبراير)، ولكنه أوضح أن مجلس الاحتياط الفيدرالي ليس على وشك تشديد السياسة.
والسياسة المالية أكثر تباينا. وتخفف بعض الدول بصورة أكبر من غيرها. وفي أمريكا، اقترحت ميزانية باراك أوباما الأخيرة تخفيضات ضريبية وزيادة الإنفاق بنسبة 1.8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي خلال العامين المقبلين. وزادت اليابان أيضا خططها للإنفاق على العجز. وسيشهد مزيد من الدول، مثل ألمانيا، ارتفاع حالات العجز في الميزانية مع ظهور تأثيرات أجزاء من رزم الحوافز السابقة.
وفي دول أخرى، من الممكن تشديد الميزانيات، حتى في الاقتصادات الضعيفة. وتجبر مشكلات أسواق السندات الحكومة اليونانية على تجميد أجور القطاع العام ورفع الضرائب، كما أدت إلى أن تسرع البرتغال وإسبانيا تخفيضات الميزانية. وبعد الانتخابات المقررة في الثالث من حزيران (يونيو)، يبدو أن بريطانيا ستخضع لمعاملة مماثلة، خاصة إذا تولى المحافظون زمام الأمور من حزب العمال.
ولا تزال قائمة الدول الغنية التي يتم إجبارها على التقشف من قبل الأسواق قصيرة - وتقتصر على الأعضاء الأضعف في منطقة اليورو، خاصة لأنهم لا يستطيعون خفض قيمة عملاتهم. ولكنها قد تصبح أطول إذا ظل النمو ضعيفا وحالات العجز مرتفعة. ولم يسبق أن شهدت أسواق رأس المال العالمية الحديثة ارتفاع في الدين العام بهذه السرعة أو بمثل درجة الميل هذه نحو العالم الغني. وقفز متوسط نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات الغنية الكبرى من أقل من 80 في المائة إلى نحو 100 في المائة خلال عامين. ويعتقد صندوق النقد الدولي أنه سيقترب من 120 في المائة بحلول عام 2014. وفي غضون ذلك، من المرجح أن تنخفض النسب في الاقتصادات الناشئة. وقد تزيد خطورة ديون الدول الغنية المتصورة أيضا - وكذلك عائدات سنداتها.
وقد تضغط السياسة المحلية أيضا على الميزانيات. وعادة، لا يحظى تشديد السياسة بالشعبية، إلا أن هذا قد يتغير. ففي أمريكا، تغير الرأي العام بصورة حادة في العام الماضي، حيث يشكك مزيد من الناس بكفاءة الإنفاق الحكومي ويخشون من وجود ثغرات في الخزانة العامة. وعلى الرغم من الميزانية الأكثر تساهلا لأوباما، إلا أن نحو 60 في المائة من الأمريكيين يعتقدون أن تخفيض العجز يجب أن يظل الأولوية الاقتصادية الرئيسة للحكومة.
وبالنظر إلى كل هذا، ظهرت مدرستان فكريتان فيما يتعلق بالتوقيت. والمدرسة المهيمنة، التي تشمل صندوق النقد الدولي ووزراء مالية مجموعة السبعة ''الذين اجتمعوا في الخامس والسادس من شباط (فبراير)''، تعتقد أنه حين تطغى المخاطر، يكون التشديد سابق لأوانه. ولا يريد صندوق النقد الدولي، الذي يعتقد أن الخروج ''السابق لأوانه وغير المتناسق'' من الحوافز يشكل خطرا حقيقيا على الاقتصاد العالمي، تشديد السياسة النقدية أو المالية في الاقتصادات الغنية الكبيرة حتى عام 2011. ويقول رئيس الصندوق، دومينيك ستراوس كان: إذا بدأت الدول بتخفيض ميزانياتها في وقت متأخر بعام واحد، ستعاني عبء ديون كبيراً لا داعي له. وإذا شددت في وقت مبكر جدا، وانتكس الاقتصاد العالمي، ستكون الفوضى أكبر بكثير، خاصة لأن الذخيرة ستنفد من صنّاع السياسة.
وتقول المدرسة الأصغر، ولكن المتنامية، أن الإنفاق الكينيزي على العجز بلغ حده، وأيضا أن بذل جهود حثيثة لخفض حالات العجز سيعزز الثقة وبالتالي يكافح الضغوط على الطلب من الإنفاق الحكومي الأقل. ولوجهة النظر هذه مؤيدون من البنك المركزي الأوروبي، الذي يريد فرض تقشف مالي أسرع من قبل أعضاء منطقة اليورو. وينتمي المحافظون في بريطانيا أيضا إلى هذا المخيم. وأحد أسباب هذا سياسي: يمكن للحكومة الجديدة أن تحمّل مسؤولية الألم المالي لفشل الحكومة السابقة. ولكنه قائم أيضا على الاعتقاد أن بريطانيا ستكون أفضل حالا إذا تم تخفيض العجز في وقت أقرب مما يعتزم حزب العمال.
ويتمثل المنطق وراء هذا بنظرية تدعى التكافؤ الريكاردي، التي ترى أنه لا يمكن للإنفاق الحكومي زيادة الطلب، بما أن المستهلكين يخفضون نفقاتهم تحسبا لرفع الضرائب في المستقبل. وعلى الرغم من أنه لا يوجد الكثير من الدلائل التي تشير أن الأسر تتصرف على هذا النحو بشكل عام، إلا أن هناك أدلة على أنه حين تكون الحكومات مثقلة بالديون تصبح الحوافز المالية أقل فاعلية، وقد تتدهور ثقة المستثمرين والمستهلكين فجأة. وحين تعالج الحكومات المثقلة بالديون ميزانياتها، يتقبل المستثمرون عوائد السندات الأقل. وتظهر عدة دراسات أن التأثير التوسعي لأسعار الفائدة الأقل يفوق في الكثير من الأحيان التأثير الانكماشي لتخفيض الإنفاق الحكومي.
ولا ينجح هذا اليوم. فعائدات السندات البريطانية البالغة 4 في المائة منخفضة بالفعل وفقا للمعايير السابقة. وأمامها بعض المجال للانخفاض، ولكن ليس كثيرا. وبالنظر إلى شح الائتمان وحرص المستهلكين على إعادة بناء ميزانياتهم، ليس من المرجح أيضا أن تزيد الثقة الأكبر الإنفاق الخاص بدرجة كبيرة. وفي أحسن الأحوال، هناك حالة وقائية: يخشى المحافظون أن ترتفع عائدات السندات إذا لم يتم إحداث تشديد مالي، خاصة حين يتوقف بنك إنجلترا عن شراء السندات البريطانية.
ولا يستفيد صنّاع السياسة من هاتين النظريتين المتنافستين لمعرفة التوقيت الدقيق للبدء بالتشديد. ولكنهما تشيران إلى المجالات التي يكون فيها التشديد أكثر إلحاحا - وبالتالي من يجب أن يبدأ أولا. ولا تكسب الاقتصادات الصغيرة المنفتحة (مثل الاقتصاد اليوناني أو الأيرلندي) الكثير من تخفيف السياسة المالية، لأن هناك الكثير من التأثيرات تنتشر للخارج. وتعاني أيضا بصورة كبيرة حين يفقد المستثمرون الثقة. والدول التي لديها أعباء ديون ثقيلة (مثل إيطاليا)، أو التي انهارت قاعدتها الضريبية (مثل إيرلندا وإسبانيا)، أو التي تعاني من عجز كبير في الميزانية (بريطانيا)، أو التي تضررت توقعات النمو طويل الأجل فيها بصورة أشد (إسبانيا) يجب أن تخشى من خسارة ثقة المستثمرين بصورة مفاجئة أكثر من تلك التي تعاني من حالات عجز أصغر (ألمانيا)، أو التي لديها توقعات ديموغرافية أفضل (أمريكا)، أو عملية احتياط (أمريكا أيضا). ومن المفترض أن تكون اليابان، التي تعاني من أعلى عبء ديون ومن نمو ضعيف ونمو سكاني مريع، قد فقدت ثقة المستثمرين قبل وقت طويل، ولكنها تقع في مكان وسط بين فقدانها وعدم فقدانها بفضل وجود قاعدة إنقاذ محلية مطواعة.
وتشير هذه الاختلافات إلى أن الوقت المناسب للبدء بتشديد السياسة المالية يختلف، حتى بين الدول التي تشهد انتعاش ضعيف. فعلى الدول التي لديها مجال مالي أكبر (خاصة ألمانيا، ولكن أيضا أمريكا) أن تنتظر لفترة أطول من الدول التي ليس لديها مجال كبير (مثل بريطانيا).

خذ نفسا عميقا
ولكن في النهاية، ستضطر جميع الاقتصادات الغنية الكبرى إلى تخفيض العجز والاستمرار بفعل ذلك لعدة سنوات. ويعتمد مدى التقشف على نسبة الديون التي تستهدفها الدول، وحجم العجز الذي تعانيه، وسرعة نموها، وأسعار الفائدة التي تواجهها. وعلى المدى الطويل، ستنمو الدول التي تقرر التعايش مع ارتفاع أعباء الديون بصورة أبطأ من الدول الحكيمة، حيث إن الديون الحكومية تزاحم الاستثمار الخاص.
وبشكل عام، فإن مجرد تثبيت نسبة الديون للاقتصادات الغنية الكبرى عند مستويات متوقعة لعام 2014 سيتطلب تحسن بنسبة متوسطها 4 في المائة تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي في رصيد الميزانية الأولي (الإيرادات ناقص الإنفاق، مع استثناء دفعات الفائدة). ولإعادة نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 60 في المائة، وهي نسبة كانت تعد حكيمة قبل الأزمة، سيتطلب بذل ضعف الجهود المبذولة. ويخفي المتوسط تباينات كبيرة. يجب أن يكون التعديل المالي في بريطانيا، كحصة من الناتج المحلي الإجمالي، أكثر بثلاثة أضعاف عنه في ألمانيا.
وقد تم فعل ذلك في السابق. ففي العقود الأخيرة، تمكنت عشر دول غنية، من كندا إلى إيرلندا، من تحسين أرصدة ميزانياتها بنسبة تزيد على 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ولكنها لم تفعل كلها ذلك مرة واحدة. كما لم تقم بذلك، وهو الأهم بالنسبة لاستراتيجيات الخروج اليوم، حين كانت أسعار الفائدة قصيرة الأجل قريبة من الصفر.
ويقود هذا إلى السؤال الثاني، أي المزيج الصحيح من التشديد المالي والنقدي. فقد أدت معظم التعديلات المالية منذ الحرب العالمية الثانية إلى تخفيض أسعار الفائدة. واليوم، ليس هناك مجال كبير أمام المصرفيين المركزيين لتعويض التقشف في الميزانية بأموال رخيصة. ونظريا، يمكنهم توسيع التخفيف الكمي، ولكنهم ليسوا متحمسين لذلك عمليا. ومن المرجح أن السياسة المالية الأكثر صرامة تعني تشديدا نقديا أقل مما سيكون عليه في ظروف أخرى. وإذا كان النمو ضعيفا، ثم تباطأ بسبب تخفيضات الميزانية، قد تكون أسعار الفائدة قصيرة الأجل في العالم الغني منخفضة على نحو غير عادي لعدة سنوات.
وتبدو تلك فكرة جيدة للوهلة الأولى. فالبديل - أي أسعار الفائدة الأعلى وحالات عجز الميزانية الكبيرة - تعني ديونا أكبر وأكثر تكلفة. وغالبا ما يؤدي تسهيل المال وتشديد الميزانيات أيضا إلى تراجع سعر الصرف، لذا فإن مزيج السياسات هذا سيسرع إعادة توازن الاقتصاد العالمي، عن طريق إضعاف عملات الدول الغنية نسبة لعملات الأسواق الناشئة. ولأن معظم الاقتصادات الغنية لديها الكثير من السعة الفائضة، ولأن تشديد الميزانيات سيقيد الطلب، من غير المرجح أن يتسارع التضخم.
ومع ذلك، فإن لهذه الاستراتيجية عيوبها. فحتى لو كانت الأسعار الاستهلاكية مستقرة، من المرجح أن تؤدي الفترة الطويلة من انخفاض أسعار الفائدة في الاقتصادات الغنية إلى تغذية فقاعات الأصول وغيرها من التشوهات المالية - كما حدث بعد عام 2003. وهذه المرة، قد يحاول المصرفيون المركزيون استخدام اللوائح لثقب الفقاعات في بداية تشكلها. فعلى سبيل المثال، قد يحدون من نسب القروض العقارية نسبة إلى قيم العقارات. وتفعل عديد من البنوك المركزية الآسيوية هذا بالفعل. وتستكشف بعضها في العالم الغني هذه الفكرة.
ومن شأن سنوات من الأموال الرخيصة في العالم الغني إثارة مشاكل لصنّاع السياسة في الاقتصادات الناشئة، مع تدفق رأس المال للحصول على إيرادات أعلى. وتعاني بعضها بالفعل من صعوبات داخلية. ويعد رفض الصين للسماح لليوان بالارتفاع أحد أهم أسباب تشوه الاقتصاد العالمي. فاليوان الأقوى سيخفف حدة التضخم في الصين ويساعد على تشكيل استراتيجية خروج عالمية.
ومع ذلك، سيصعب على الاقتصادات الناشئة البريئة، خاصة الصغيرة والمنفتحة منها، الحفاظ على الاستقرار النقدي الداخلي. وإذا تركت لوحدها، قد تقفز عملاتها بسهولة. والسماح بالارتفاع التدريجي يجتذب غالبا المزيد من رأس المال الأجنبي، حيث يتوقع المستثمرون أن ترتفع العملة. وبناء الاحتياطات يجعل من الصعب السيطرة على التضخم. ويبدو من المرجح وضع ضوابط على رأس المال لوقف التدفق الداخلي.
ولعل الأمر يستحق اتخاذ هذه المجازفات، بالنظر إلى الضعف المحتمل لانتعاش العالم الغني ونطاق مهمته المالية. ومع ذلك، ربما لا يكون تشديد الميزانية المخطط بعناية، الذي يسمح للبنوك المركزية بالتحرك درجة أو اثنتين عن الحضيض، أمرا سيئا. ويقول Stephen Roach من Morgan Stanley أنه يجب تغيير إعدادات لوحة التحكم النقدية من ''الطوارئ'' إلى ''ضئيلة جدا''. ويتفق معه الكثير من المصرفيين المركزيين سرا.

الأدوات الجديدة لمحافظي البنوك المركزية
إن احتمالية أن يكون التشديد المتواضع منطقيا حتى في الانتعاش الضعيف تثير السؤال الثالث، خاصة بالنسبة للبنوك المركزية، مثل مجلس الاحتياط الفيدرالي وبنك إنجلترا، التي استفادت كثيرا من الإجراءات غير التقليدية: حين يقررون تشديد الشروط النقدية، كيف يفعلون ذلك؟
بفضل التخفيف الكمي، لدى البنوك المركزية الآن اثنتان من أدوات السياسة: أسعار الفائدة قصيرة الأجل للسياسة النقدية، كما هو من قبل، وحجم ميزانياتها. ويخشى البعض أن تثير البنوك المركزية التضخم عن طريق توسيع ميزانياتها. والند لأصولها هو حيازات الاحتياط الفائضة للبنوك مع البنوك المركزية. وإذا قررت البنوك إقراض هذه الأموال، قد ينفجر الائتمان.
وهذا النظرة ساذجة جدا، خاصة لأن المصرفيين المركزيين مشغولون بإيجاد وسائل التمسك بالاحتياطات إذا برزت الحاجة. وتدفع جميع البنوك المركزية الكبيرة الآن الفائدة على الاحتياطات. ولدى العديد منها طرق جديدة لاستنزاف الاحتياطات. وقال بيرنانك هذا الأسبوع أن مجلس الاحتياط الفيدرالي، الذي لديه أكبر مجموعة من الإجراءات الجديدة، يخطط لتقديم ودائع لأجل للبنوك، ما يمكنه من الاحتفاظ بالاحتياطات لعدة أشهر.
ومبدئيا، تعني هذه الأدوات أن حجم ميزانية البنوك المركزية يجب ألا تؤثر في قدرتها على التأثير في الشروط النقدية. وقد وسعت البنوك المركزية خياراتها. ويمكنها أن ترفع أسعار قصيرة الأجل أو يمكنها زيادة حدة الانحراف في العائدات عن طريق بيع الأصول المؤرخة بأجل أطول من ميزانياتها.
وعمليا، لم يتم اختبار هذه الأدوات. وسيجد المصرفيون المركزيون صعوبة أكبر في معرفة الكيفية التي تؤثر بها في الشروط النقدية أو تحديد ما تفعله بوضوح. فعلى سبيل المثال، اقترح بيرنانك أنه يمكن لمجلس الاحتياط الفيدرالي استهداف سعر الفائدة الذي يدفعه على الاحتياطات الفائضة مؤقتا، بدلا من سعر الأموال الفيدرالية. وإذا وجدت الأسواق المالية صعوبة في فهم وتوقع تصرفات المصرفيين المركزيين، قد تتشوه الطريقة التي تنتقل فيها السياسة النقدية إلى الاقتصاد الأوسع.
وهناك صعوبات سياسية أيضا. ففي أمريكا مثلا، سيبدو للكثيرين أن دفع أسعار فائدة أعلى للبنوك على الاحتياطات الفائضة مثل تسليم المال للأشرار. ومن شأن بيع الأوراق المالية المدعومة بالقروض العقارية إثارة انتقادات السياسيين الذين يشعرون بالقلق بشأن أسعار القروض العقارية الأعلى. وفي الوقت الذي قلت فيه مكانة مجلس الاحتياط الفيدرالي بنظر العامة، أصبحت المخاطر عالية. فقد تؤدي سوء إدارة التشديد، حتى لو كان متواضعا، إلى تهديد استقلال البنوك المركزية.
ومزيج عدم اليقين بشأن قوة الانتعاش ونطاق التعديل المالي المتوقع والصعوبات الفنية والسياسية التي تواجه البنوك المركزية يقود إلى ثلاثة استنتاجات. الأول هو أنه ليس على صنّاع السياسة القلق فقط بشأن وقت البدء بالتشديد: يجب أن يكون مزيج السياسات المالية والنقدية متماسكا أيضا.
والثاني هو أن هذا يوحي أن على البنوك المركزية ووزراء المالية تنسيق سياساتهم على نحو أوثق مما كان عليه في السنوات الأخيرة. ولطالما اعتقد الاقتصاديون أن السياسة النقدية هي الوسيلة الرئيسية لإدارة الدورة؛ ولطالما خشيت البنوك المركزية أن يؤدي التعاون الصريح مع الحكومات إلى تسيسها. وقد يكون العكس صحيحا الآن.
والثالث هو أن مصطلح ''استراتيجية الخروج'' قد يكون تسمية خاطئة. وفطم الاقتصاد العالمي عن الحوافز المالية والنقدية سيستغرق سنوات عديدة. ومثل أي مدمن سابق، ربما لا يعود المريض إلى سابق عهده تماما مرة أخرى

الأكثر قراءة